سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله
الموضوع الذي سنتناوله يرتكز على أصل كبير من الأصول المعنوية والإيمانية الحاكمة في مسيرتنا وفي حركة الحياة، سواء في جانب السلوك الشخصي أم في جانب السلوك العام أم في أيّ ساحة من ساحات الحياة.
الأصل هو ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية الإنسان لله عز وجل. ولعلّنا كمؤمنين، ومن ناحية معنوية ونفسية وفكرية، بحاجةٍ للعودة إلى هذا البحث.
*حقيقة واحدة
هناك حقيقةٌ واحدة هي: (الله)، الوجود الحقيقي والمطلق، وما سواه آثار وجوده ومظاهرُ لهذا الوجود، ولذاته وصفاته. وما في الوجود من رحمةٍ وقوّة إنما هو مظهر لرحمة الله وقوة الله. وما في الوجود من علمٍ إنما هو مظهرٌ لعلم الله سبحانه وتعالى. والإنسان في مقابل الله عز وجل هو عبدٌ محض. والمشكلة التي يُعاني منها الإنسان في الحياة هي فهم العبودية لله عزّ وجل، كيف أكون عبداً لله فكرياً، ومعنوياً ونفسياً؟ كيف يمكن أن لا أتحوّل إلى إله؟
*كيف أكون عبداً لله؟
هذا يمكن أن يحصل لأي إنسان. قد يعيش الإنسان في ظاهر سلوكه حركة العبد ولكنه في باطن روحه وقلبه ونمط تفكيره ومشاعره يعيش روحية ﴿أنا ربّكم الأعلى﴾. وهذا الأمر يمكن أن نجد له الكثير من النماذج حتى في أصحاب الأنبياء وفي أصحاب الأئمة عليهم السلام. والسؤال الهام هو كيف أمارس عبوديتي لله عز وجل؟ وكيف أكون عبداً لله في كل شيء.
للإجابة عن هذا السؤال يجب معرفة أمرين اثنين:
أولاً: يجب أن أحسم، على مستوى العقيدة والحالة النفسية، ألوهية الله، قدرته المطلقة، حكمته البالغة، رحمته الواسعة وبالتالي أن أؤمن عقائدياً وأشعر نفسياً أن مصدر القوة والقدرة والعظمة والجبروت هو الله سبحانه وتعالى، أن أعيش شعور أن الله ﴿بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير﴾.
كيف يمكنُ أن تحملَ هذا الإيمان ويملأ كل كيانك وكل وجودك؟ المشكلة تكمن في الحياة التي تُمتحن فيها (بالفقر) وتشعر فيها بضعفك، أن تحمل هذه المشاعر في محيطك الذي فيه ما فيه من جبابرة وقوة عظمى، هذا هو الصراع، وهنا المسألة الأساس.
*مشكلتنا الغفلة
إن هذا الأمر يحتاج إلى توجّه نفسي وقلبي وتوجّه عقلي وروحي باتجاه الله للتعرّف إليه أكثر، ولنقترب منه أكثر حتى نزداد إيماناً وقوةً وعزيمة. وهذا له طُرُق كثيرة ومن أهمّ هذه الطرق التفكّر في خلق الله سبحانه وتعالى.
وأهم مشكلة هي الغفلة، فنحن غافلون عن الله وعن آثاره، مع العلم أن الله سبحانه وتعالى ملأ الوجود بالآيات المشيرة إليه، مظاهر وآيات الطبيعة وكل مظاهر الوجود هي مظاهرُ لوجوده وصفاته وذاته. هذه المظاهر عندما يذكرها أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: "ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه". عندما لا يغفل الإنسان يمتلئ قلبه إيماناً وشعوراً بهذه الألوهية، حينئذ يتحوّل إلى إنسانٍ آخر. والمشكلة هي النسيان والذكر. فالذاكر ليس من يحمل مسبحة أو يقضي ساعات يقرأ ويتلو كتاب الله وهو في قلبه غافلٌ عنه سبحانه وتعالى وليس الذي يقف في الصلاة وهو ليس متوجهاً إلى الله. هذا ليس ذكراً لله، وإنما الذكر لله في تذكّره، والتفكّر فيه، والإحساس به وحضور القلب بين يديه سبحانه وتعالى.
*أن تشعر معاني العبوديّة
ثانياً: أن تكون عبداً لله يعني أن تشعر بضعفك أمامه، بجهلك وبفقرك أمامه... هذا التخضّع والتذلّل والتخشّع لله سبحانه وتعالى هو المطلوب.
عندما نقرأ في أدعية الأئمة عليهم السلام نرى فيها: الخاضع، الذليل، الحقير، المسكين، المستكين، الضعيف، العاجز والفقير بين يدي الله سبحانه وتعالى. قد تشعر أمام الآخرين بعلمك في مقابل جهلهم، بقوتك في مقابل ضعفهم. هذا أمرٌ نسبي نسبةً للآخرين. أما بين يدي الله سبحانه وتعالى فيجب أن يعيش الإنسان كلّ معاني العبودية لله حتى لا تتحرّك النفس باتجاه مشاعر الألوهية التي قد يشعر بها الآخرون.
فالله سبحانه أعطانا الحياة والعلم ومنّ علينا وأكمل علينا نعمته وأرسل لنا أنبياءه وأكمل لنا دينه بولاية أوصيائه. في مقابل نِعم الله يجب أن نشعر دائماً بإحساس العبودية أمامه والحاجة إليه.
*الألوهية ممارسة
من هذه النقطة نبدأ لنقول إن من لديه إمكانيّات مالية كبيرة جداً يحمل شيئاً من مشاعر الألوهية والربوبية ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6–7). استغنى: تعني الاستغناء عن الآخرين مالياً وعلمياً من حيث القوة والسلطان والجاه. هل وجدتم في تاريخ الشعوب ضعيفاً يدّعي الألوهية؟ عبر التاريخ نمرود ادعى الألوهية وفرعون أيضاً وأمثال هذين النموجين. ليس شرط الألوهية أن يقف الإنسان ويقول للناس: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعات: 24). الألوهية أن يمارس الإنسان على الناس حقيقة ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾. مثلاً: عندما يصير شخص ما مسؤولاً عن مجموعة ويشعر أن تحت إمرته عدداً من الناس يأتمرون بأوامره تبدأ عنده حالة من الشعور بالقوة. نفس الأمر نجده في الجيوش النظاميّة. مثلاً: هناك فرق بين روحية الرقيب والنقيب والمقدّم والعقيد والعميد إذ يزداد الشعور بالعجرفة والجبروت والكبرياء والطغيان كلّما تدرجنا صعوداً. وحتى في مجالات العمل الإسلامي والحركة الجهادية يُبتلى المجاهدون بأشخاصٍ تتحوّل القضية عندهم كيف يكون هو المحور والآمر والناهي، حتى لو أدّى ذلك إلى إرباك مجمل الصراع.
هذا شكلٌ من أشكال الألوهية وشكلٌ من أشكال الخروج من العبودية لله سبحانه وتعالى. في هذا الإطار هناك نماذج كثيرة موجودة في تاريخ المسيرة الإسلامية وفي تاريخنا المعاصر. الجميع مؤهلون للانزلاق والسقوط في هذه الحبائل الشيطانية التي تضلّ الإنسان، وتبعده عن العبودية لله سبحانه وتعالى. هذا البلاء هو بلاءٌ عظيم يجب الانتباه له.
*الإرادة الإلهية قسمان
من جهة أخرى، عندما أسلّم لله سبحانه وتعالى بالعبودية يجب أن تستسلم إرادتي لإرادته ومشيئتي لمشيئته. وهنا لله تعالى إرادتان ومشيئتان:
الأولى: التكوينية حيث تستسلم كل الموجودات للإرادة الإلهية التكوينية. مثلاً: موضوع (الأجل) يدخل في المشيئة الإلهية التكوينية ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: 34). هذا أمرٌ جبريٌ قهريٌّ لا فضل لنا فيه.
الثانية: الإرادة والمشيئة الإلهية التشريعية، فالاستسلام لهذه المشيئة يعني الاستسلام للأحكام والتكاليف الإلهية.
لقد أعطى الله الإنسان في دائرةٍ معيّنة ساحة واسعة من الإرادة والحرية والمشيئة، فللإنسان أن يريد وأن يختار. والله تعالى في ساحة الاختيار لم يدعه وحيداً وإنما هداه ودلّه على الطريق. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69) و﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69) ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7). وللإنسان أن يختار شكل الحياة التي يشاء، يختار أن يصلّي أو لا يصلّي، أن يُقيم العدل في الأرض أو أن يملأ الأرض فساداً، أن يكون عبداً صالحاً أو أن يكون عبداً ظلوماً كفوراً. ترك الله له العنان وأجّله إلى يوم القيامة ولكن نبّهه أيضاً إلى أن الأفعال الدنيوية في دائرة الاختيار لها نتائج على مستوى السنن الحاكمة في المجتمع، وفي التاريخ وفي الروح. حيث يجب أن تستسلم إرادتنا واختيارنا لاختيار الله سبحانه وتعالى وأن نرضى بقضاء الله وقدره وأمره، وتستسلم مشيئتنا أمام مشيئة الله، وهذا هو الشكل العملي من أشكال العبودية.
*اختيار الطاعة لله
فممارسة العبودية لله سبحانه وتعالى يجب أن تترجم في دائرة الاختيار إلى الطاعة المطلقة لله والاستسلام له بمعزل عن الآخرة. إذ يجب أن يمارس الإنسان حالة العبودية أمام الله سبحانه وتعالى. هذا المعنى بحاجة إلى مستوى من التوجه الروحي والمعنوي. وهنا نفهم ماذا يقصده الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عندما يقول: "اللهم ما عبدتك خوفاً من نارك وما عبدتك طمعاً في جنتك وإنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك. إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد. وإنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فإن تلك عبادة التجار. وإن قوماً عبدوا الله حباً أو لأنهم وجدوه أهلاً للعبادة فتلك عبادة الأحرار".
نحن، حتى الآن، ما زالت علاقتنا بالله علاقة لا نفصل بينها وبين العلاقة بالآخرة وبين الجنة والنار. وهذا أمر مشروع. ولكن هناك مستوى أعلى، فنحن نحترم القويّ ونعظّم العالِم. تخشع قلوبنا لصاحب الهيبة. هذه حالات نفسية نعيشها. ولو تأملنا في الله سبحانه وتعالى في جماله وعظمته وقدرته وغناه وجبروته وقوته وكبريائه لشعرنا بانشدادٍ قويّ إليه بمعزلٍ عن جنته وبمعزلٍ عن ناره.