إلى جانب الحاجات الماديّة الّتي يحتاج إليها الإنسان في
عمليّة "البقاء"، توجد "الحاجة الرّوحيّة"، وهي تمثّل الزّاوية الّتي يركن إليها
الإنسان كلّما كان بحاجةِ إلى شحنةٍ تدفعه إلى الاستمرار وسط فوضى الحياة الجافّة،
أو كلّما شعر بانحناءة في قلبه.
* أنفاس كُميل وأبي حمزة الثمالي
لم يُقل عبثاً إنّ الكلمات تحيي الإنسان، فما الحال إذا ما كان هذا الكلام بين
الحبيب والمحبوب، بين العابد والمعبود، مع من هو ﴿
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: 16)؟ لقد ترك لنا
الأئمّة عليهم السلام نبع ماء لنغرف منه كلّما عطشت أرواحنا، وكلّما اشتقنا إلى
عذْب حبّهم، علاجاً للأنفس العليلة الّتي تعصف بها ريح الدّنيا كيفما مالت...
معروفة بأنفاس "كميل" و"أبي حمزة الثّمالي" وغيرهما.
إنّ صلاح الإنسان قائم على حسن استغلاله لهذا الكنز المتمثّل بالدّعاء، الفرصة
الّتي قدّمها الله لعباده حتّى يخاطبوه. قامت مجلة "بقيّة الله" باستطلاعٍ عن
الأدعية الأكثر قراءةً بين النّاس، بالإضافة إلى عدد من المقابلات مع السّيّد علي
حجازي (إمام مجمّع الإمام الكاظم عليه السلام)، وفضيلة الشّيخ خير الدّين شريف
الّذي نقلنا معه إلى ميادين الدّفاع المقدّس، وأيضاً القارئ علي مدلج لنعلم منهم
أكثر عن خصوصيّة الدّعاء في حياة الإنسان.
* دعاء الإقرار بالعبوديّة وسبيل السعادة
قمنا باستطلاع بين النّاس لمعرفة الأدعية الأكثر تأثيراً في حياتهم فكانت النّتيجة
كالتّالي:
"زينب" ربّة منزل، تبلغ الخمسين من عمرها، يشعرها دعاء أبي حمزة الثّمالي بوقْع
مختلف عن باقي الأدعية، فهو على حدّ قولها: "يصف حالة الموت بتفاصيلها الدّقيقة.
هذا الخطاب المليء بالأسى والنّدم يكسر القلب لما فيه من عبارات النّدم، كمّ الحبّ
والرّجاء الموجودين في هذا المضمون لا يوجد في أيّ دعاء آخر، فلا يمكن تفضيل مقطع
على آخر. الإنسان قبل دعاء أبي حمزة الثّمالي ليس كما بعده".
* مناجاة مملوءة بالحبّ والعرفان
أمّا "علي" 54 عاماً، وهو عامل في مجال الاتّصالات، فلا يمكنه تخيّل هذه الحياة
لولا المناجاة الشّعبانيّة. هذه النّجوى الّتي يخاطب بها العابد المعبود مليئة
بالحبّ والعرفان. هذا القرب الّذي تتيحه المناجاة له خصوصيّة روحيّة عظيمة، "إلهي
انظر إليّ نظر من ناديتَه فأجابك، واستعملته بمعونتك فأطاعك، (...) إلهي، هَب لي
قلباً يُدنيه منك شوقُه، ولساناً يُرفَع إليك صِدقه، ونظراً يُقرّبه منك حقّه"(1).
* دعاء كُميل "شُحنة" أسبوعيّة للروح
في المقلب الآخر، هادي 13 عاماً، وجواد 17 عاماً، لهما علاقة خاصّة بدعاء كميل بن
زياد، فهما يرتادان مسجد القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف كلّ ليلة جمعة ليشاركا
في الإحياء، الذي يصفانه بالشّحنة الّتي تشحن روح الإنسان كلّ أسبوع؛ لما فيه من
مضمون عميق يعبّر عمّا يريد الإنسان قوله لربّه.. بكلّ بساطة.
* دعاء المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف أمان لنا
بعد هذا الاستطلاع، لنسأل من كان به خبيراً لنرى ما يقولون في هذا الشّأن، والبداية
كانت مع السّيد علي حجازي الذي يقول: أصل وجود الإنسان رهين دعائه؛ لقوله سبحانه
وتعالى: ﴿مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا
دُعَاؤُكُمْ﴾ (الفرقان: 25)؛ أي لو قطع الله سبحانه وتعالى رحمته عن هذا
الكون لزال. لهذا، نجد في الرّوايات أنّ الله قد يرحم هذا الكون بأجمعه بسبب دعاء
إنسان واحد مستضعف، فيكون دعاؤه أقرب للاستجابة.
* الدعاء: العلاقة الإنسانيّة مع الله
أوّلاً: "الدّعاء" هو حيثيّة من حيثيّات إظهار العبوديّة لله وتجسيد للحقيقة
الإنسانيّة في العلاقة مع الله، حيث أراد سبحانه لهذا الإنسان أن يعيش العبوديّة
معه، وأن يظهرها له. عندما استحقّ النّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون
خاتم النبيّين؛ فلأنّه جسّد تمام العبوديّة لله. وفي صلاتنا نحن نشهد له بالعبوديّة
قبل أن نشهد له بالرّسالة.
ثانياً: نحن كمسلمين نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى هو علّة العلل، هو العلّة
الوحيدة في هذا الكون، أي أنّ كلّ هذا الوجود بيده، وأنّ الإنسان يكمّل هذه
العليّة، كتهيئة بعض الشّروط لحصول أمر ما. بناءً عليه، جعل الله "الدّعاء" من
أسباب الأمور التي تتحقّق في الحياة، كإنزال الرّزق وصلاة الاستسقاء على سبيل
المثال، حيث ربط الله تعالى تحقّق الأمور بالدّعاء كجزء من علّتها لإيجاد الكثير من
الأمور. إذاً، الدّعاء ركن أساسيّ من أركان التغيير الّتي يصنعها بدعائه الإنسان.
* الدعاء جماعةً: عامل إجابة
يربّي الله بحكمته عبده، ويأخذه إلى شاطئ الأمان، فيختار ما فيه مصلحة له. قد يدوم
الدّعاء أبداً دون استجابة، هذا الأمر له تفسيرات عدّة والله "الحكيم" يعرف متى
وكيف ولما يستجيب، واللافت أنّ من شرائط الاستجابة:
1- الثّقة بالله سبحانه وتعالى: "أنا عند ظنّ عبدي المؤمن، إن خيراً فخيراً"(2).
فلنتوجّه إلى الله بقلب سليم غير ساهٍ أو قاسٍ.
2- الدعاء في جماعة من الناس: ما يخلق نوعاً من الارتباط والتآلف تصنعه أجواء
الدّعاء نفسها، فتجعل من المجتمع الإيمانيّ المتديّن مجتمعاً متعاوناً ومتكاتفاً.
في بعض الرّوايات حثٌّ على الدّعاء لبعضنا بعضاً؛ "ادعُ الله بلسان غيرك"(3).
من أهمّ الأدعية الّتي تختزن الكثير من المعاني العقائديّة والأخلاقيّة والمفاهيم
السّياسيّة والدّينيّة والاقتصاديّة، الأدعيّة الّتي صدرت عن أهل البيت عليهم
السلام الّتي فيها مصلحة الإنسان: دعاء الافتتاح، ودعاء كميل، دعاء الصّباح، دعاء
أبي حمزة الثّمالي، والصّحيفة السّجاديّة، حيث إنّها منظومة كاملة يستطيع الإنسان
من خلالها أن يستخلص نظاماً لحياته على كلّ المستويات حتّى التّربويّة منها.
* آثار الدعاء وجدانيّة
في هذا السّياق يُكمل "الشّيخ خير الدّين شريف" فيقول إنّ للدّعاء آثاراً عمليّة
وجدانيّة، فعندما نقرأ "دعاء أبي حمزة الثّمالي" أو "دعاء مكارم الأخلاق" نرى أنّ
الأئمّة عليهم السلام يربّون النّاس من خلال الدّعاء، والإمام زين العابدين عليه
السلام على وجه الخصوص، حيث استخدم أسلوب الدّعاء في الدّعوة إلى الله والأخلاق وفي
الدّعوة إلى التّربية.
وقد كانت للشّيخ خير الدّين شريف تجربة شخصيّة في إحياء دعاءَي التوسّل وكميل في
المصلّى المجاور لمقام السّيّدة زينب عليها السلام في دمشق منذ العام 1990.
* الدعاء في الجبهة له طعمٌ آخر
الدّعاء في الجبهات له طعم مختلف. خطوط التّماس مع العدوّ وميادين القتال، من
الأماكن القريبة لله تعالى. عندما تعطي هذا الأخ المجاهد في الخطوط الأماميّة،
الّذي يبعد عن العدوّ أمتاراً قليلة، كتاب دعاء ليتمتم ببعض العبارات من دعاء أهل
الثّغور أو دعاء كميل أو دعاء التّوسل فإنّ وقع الكلمات سيكون مختلفاً. إحياء هذه
المراسم في تلك المشاهد المقدّسة وعلى خطوط النّار لا يشبه الإحياءات الّتي نقوم
بها في بلداتنا الآمنة. ما تجده في هذه الميادين، لا تجده في أيّ مكان آخر.
"أثناء اشتداد الأزمة في سوريا، كانت القذائف تتساقط على مقام السّيّدة زينب
عليها السلام بين الحين والآخر، وكنّا نحن في المصلّى نقوم بالإحياءات، سواء دعاء
كميل أو دعاء التّوسل، فكنّا نسمع أصوات القنابل والصّواريخ وهي تسقط قربنا. معظم
الإخوة الحاضرين في المصلّى كانوا من المجاهدين في الدّفاع المقدّس. فكانت الأجواء
الرّوحانيّة تلفّ المكان. كنت أشعر من خلال هذه القراءة بانقطاع إلى الله عزّ وجلّ.
نحن كنّا نشعر بالألطاف الخفيّة التي تمطرنا بها الكلمات خلال تلك الفترة هناك".
* الدعاء يأخذ بأيدينا إلى الله
يختصر القارئ "علي مدلج" المسألة في جملة: "ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب دون
استئذان". فهو من خلال الإحياءات التي يشارك فيها في المساجد، يشدّد على أهميّة
الدعاء بصدق ومحبّة وتوجّه وحضور قلب للداعي، والقارئ بشكل خاصّ الذي سرعان ما
يُنفذ الدّعاء إلى قلوب النّاس. كما أنّ روحيّة القارئ لها دور مهمّ في تحقيق آثار
الدعاء. يذكر القارىء "علي مدلج" حادثة بهذا الصّدد، فيقول: إنّ بدايات التزام
الشهيد "وسام حاطوم" كانت عندما صادف أن سمع دعاءً وتأثّر بروحيّة وأداء القارئ،
وبات يبحث عمّا يقرأه في شبكة الإنترنت، وشيئاً فشيئاً وصلته المعاني العظيمة في
الأدعية، وازداد قرباً من الله تعالى، وبات في خطوط الجهاد.
* الدعاء في أشهر النور
يدرك النّاس خصوصيّة أشهر النّور، فيعملون على استغلالها في الاقتراب من الله وطلب
المغفرة من خلال الأدعية المستحبّة وقراءتها في هذه الأشهر، كدعاء أبي حمزة
الثمالي، الذي له خصوصيّة عجيبة في ليالي القدر. فهو دعاء يُرتّب آثاراً معنويّة
عالية، ويشحن الإنسان بروحيّة وخشوع. عندما يقول الإمام السّجاد عليه السلام: "أنا
الّذي عصيت جبّار السّماء"، هو هنا يُعلّم أبا حمزة الثّمالي، ويترك أثراً في قلب
كلّ محبّ لأهل البيت عليهم السلام. ونقول في هذه الليالي أيضاً: "يا وجيهاً عند
الله، اشفع لنا عند الله"(4)، فترى خصوصيّة هذه الأشهر تكمن في ارتباطها بهذا
الإمام عليه السلام.
ختاماً، من الجميل أن يدرك الإنسان هذا الكمّ من حبّ الله تعالى لعبده، ليتيح له
فرصة مخاطبته، فيعتذر مرّة ويشكر مرّة ويطلب في أخرى، كأن لا حاجب بينهما، بلغة
بليغة خاصّة، ويفهمها الجميع.. شرطها أنْ يكون حبيباً صادقاً، لحبيب مطلق، عزّ اسمه
وجلّ.
1- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج3، ص298.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص72.
3- "ادعني بلسان غيرك"، بحار الأنوار، ج90، ص390.
4- من دعاء التوسل، مفاتيح الجنان، عباس القمّي، ص140.