إن أحد العوامل المساعدة في جهاد الإنسان الأكبر مقابل النفس الأمَّارة هو الدعاء،
وقد أولى القرآن الكريم أهمية خاصة للدعاء لكونه يرتِّب علاقة أو ارتباطاً بالمدعو،
وذمّ للقرآن الكريم أولئك الذين لا يهتمون بالدعاء والتبتُّل؛ قال عزّ وجلّ:
﴿وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾
(المؤمن/60)، ثم أردف الباري فقال:
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِين﴾َ
- غافر - الآية - 60
لم يأتِ في القرآن عذاب مثل هذا العذاب يترتَّب على ترك عمل بهذه الكيفية، أو يمكن
القول نادراً ما نرى وعيداً بهذه الكيفية التي جاءت بصدد التارك للدعاء، فمن لم يدع
ثم يئس من الدعاء وترك الحبل على الغارب في هذه القضية الحساسة أدخله الباري جهنم
بعد اقتياده ذليلاً، لقوله داخرين التي تعني الاقتياد بذل.
وفي آية أخرى يقول الباري
تعالى:
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا
﴾ (الفرقان/77) أي ما يصنع بكم أو لا يكترث بكم لولا دعاؤكم له.
فمن امتنع عن الدعاء والطلب إلى الله تباركت أسماؤه، رفع الباري يده عنه وأوكله إلى
نفسه، وعندها تراه خاسراً في الدنيا وفي الآخرة، لذا حثَّت الروايات الشريفة على
التقيُّد بقراءة دعاء الرسول في ظلمة الليل الذي كان يقول فيه: "اللهمَّ لا
تكِلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ أبداً".
إن الدعاء شعبة من شعب
تهذيب النفس وبنائها وهي التي ذكرها الباري سبحانه وتعالى بعد قسم غليظٍ بالشمس
وضحاها، والقمر إذا تلاَّها، والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما دحاها
ثم جاءت عبارة النفس وتسويتها وإلهامها الفجور والتقوى وكيفية فلاح النفس بالتزكية،
وخيبتها إذا أخفاها البشر بالمعصية والجهل؛
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾
(الشمس/9 و10).
فتزكية النفس تمرُّ بالدعاء والتوسل بالمولى تعالى وقد تكرَّر ضمير المتكلم في هذه
الآية الشريفة سبع مرات من أجل الدعاء الذي يربي النفس البشرية ويهذبها، وهذا مما يدلل على
الأهمية البالغة للدعاء؛ وفي سورة البقرة نلاحظ مسألة قرب الباري من الداعي حينما
يدعوه ويبتهل إليه فيقول:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُون﴾َ
(البقرة/186).
وقد نزلت هذه الآية المباركة حين سأل البعض أقريبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟
فأجاب: بأنه قريب عليم بأحوالهم، سميع لدعائهم كما يسمع القريب كلام صاحبه
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ
﴾ إذا أتى بشرائط الدعاء وعرف من يدعو،
﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾
إذا دعوتهم للإيمان والطاعة،
﴿وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾
وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه﴿لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُون﴾
أي يصيبون الحق ويهتدون إليه.
وقال أيضاً:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
﴾ (ق/16). وحبلُ الوريد هو العِرق الذي يكون في صفحة العنق، وهو
تدليل على سماع الله للعبد أكثر من كل قريب، إضافةً إلى التشجيع على الدعاء والتوسل
به لوحده سبحانه وتعالى وصرف النظر عن التماس الآخرين.
إلهي..
هب لي كمال الانقطاع إليك...