مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناجاة الزاهدين(5): وَتَوَلَّ أُمُورَنَا بِحُسْنِ كِفَايَتِكَ


آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


"إلَهِي فَزَهِّدْنَا فِيهَا وَسَلِّمْنَا مِنْهَا بِتَوْفِيقِكَ وَعِصْمَتِكَ، وَانْزَعْ عَنَّا جَلَابِيبَ‏ مُخَالَفَتِكَ، وَتَوَلَّ أُمُورَنَا بِحُسْنِ كِفَايَتِكَ، وَأوْفِرْ مَزِيدَنَا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ، وَأجْمِلْ صِلاتَنَا مِنْ فَيْضِ مَوَاهِبِكَ".
في هذه الفقرة من مناجاة الزاهدين، يطلب الإمام السجّاد عليه السلام من الله تعالى أن يتعهّد أعماله بحُسن كفايته وتدبيره "وَتَوَلَّ أُمُورَنَا بِحُسْنِ كِفَايَتِكَ". فللإنسان في الدنيا احتياجات يعمل على تهيئتها، أمثال الحاجة إلى الطعام والمَسكن. ولا يحقّ لأيّ شخص حرمان نفسه من الاحتياجات الضروريّة التي تقتضيها طبيعة الحياة.


* تأمين الاحتياجات والانصراف إلى الدنيا
ويتطلّب العمل لأجل تأمين هذه الاحتياجات أن يتوجّه الإنسان إلى الدنيا، وقد يصرف عمره كلّه في سبيل تأمينها. وقد يضطرّ الإنسان من أجل تأمين أحد احتياجاته أو من أجل رفع مشكلة حصلت له، إلى أنْ لا ينام الليل؛ بل، أن يقضيه وهو يفكّر في طريق الحلّ.

الآفة الأخرى التي ترافق العمل لتأمين الاحتياجات، أنّ الإنسان عندما يغرق في قضاياه اليوميّة قد ينجذب إلى الدنيا بالتدريج فيتعلّق ويستأنس بها. وإذا كان الله تعالى هو الذي يَلطف بعباده وهو الذي يتكفّل رفع مشكلاته وتأمين احتياجاته، تنقضي هذه الاحتياجات بتدبير الله؛ عند ذلك يجد الإنسان الفرصة للإتيان بوظائفه الأخرويّة وعبادة الله والتفكير في مسائل حياته الأساسيّة.

* استفادة أحباب الله من تدبير الرحمة الإلهيّة
تارة يضطرّ الإنسان، ولأجل التقدّم في الأبعاد المعنويّة، إلى الاستفادة من الدنيا أكثر من حدود الضرورة وأعلى من الاحتياجات الشخصيّة. مثال ذلك، إذا رغب أحدهم في العمل بسنّة الإنفاق والإحسان والتطرّق لأعمال الخير العامّة النافعة، فقد يضطرّ إلى العمل لامتلاك ثروة كافية؛ ليستفيد منها في سبيل الله لأجل تكامله. في هذه الحال، إذا أعطاه الله تعالى من خزانة رحمته وكرمه حتى لا يُجبر على تحمّل التعب والمشقّة في تحصيل الثروة فيوفّقه للمزيد من أعمال الخير والأمور الأخرويّة؛ لذلك يقول الإمام عليه السلام في مقطع من كلامه: "وَأوْفِرْ مَزِيدَنَا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ".

* إدراك لذّة الأنس بالله ومحبّته
أشرنا في العدد السابق إلى أنّ هناك طرقاً عديدة للتقليل من الاهتمام بالدنيا وعدم الانخداع بها، ومنها: الالتفات إلى عيوبها، الالتفات إلى الآلام والمشقّات والصعاب التي تعترض الإنسان فيها.
بغضّ النظر عن الطريق الأوّل الذي أشرنا إليه، هناك طريق ثانٍ أكثر أهميّة وقيمة ونفاسة ألا وهو: (إدراك محبّة الله وتذوّق طعم لذّة الأنس بالله).

يشتمل القرآن الكريم وكذلك الروايات على مقاطع عديدة من الأدعية التي تبيّن هذا الطريق وترسمه، وتعرض لتأثير محبّة الله على مستوى رفع التعلّق بالدنيا والتخلّص من العصيان والمعصية. مثال ذلك ما جاء في المناجاة الشعبانيّة لأمير المؤمنين عليه السلام: "إِلهِي لَمْ يَكُنْ لِي حَوْلٌ فَأَنْتَقِل بِهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ إِلاّ فِي وَقْتٍ أَيْقَظْتَنِي لِمَحَبَّتِكَ وَكَما أَرَدْتَ أَنْ أَكُونَ كُنْتُ فَشَكَرْتُكَ بإدْخالِي فِي كَرَمِكَ وَلِتَطْهِيرِ قَلْبِي مِنْ أَوْساخِ الغَفْلَةِ عَنْكَ". عندها يصبح الإنسان جاهزاً للتخلّي عن لذّة بهدف الوصول إلى لذّة أكبر، فإذا تذوّق لذّة الأُنس بالله، يصبح غير جاهز للتخلّي عنها. في الواقع، فإنّ محبّة الله والأنس به يمنعان التعلّق بمظاهر الدنيا. طبعاً تذوّق طعم الأنس بالله وتجلّي محبّته في القلب، لا يحصلان بسهولة، بل يتطلّب الأمر العديد من المقدّمات والكثير من المجهود. ومن أهمّ هذه المقدّمات: لطف الله وعنايته بالإنسان، وامتلاك الإنسان لياقة وتوفيق محبّة الله. وقلب الإنسان هو محلّ تجلّي المحبّة الإلهيّة بلطف الله وعنايته، لذلك يقول: "وَاغْرِسْ فِي أفْئِدَتِنَا أشْجَارَ مَحَبَّتِكَ، وَأتْمِمْ لَنَا أنْوَارَ مَعْرِفَتِكَ، وَأذِقْنَا حَلَاوَةَ عَفْوِكَ وَلَذَّةَ مَغْفِرَتِكَ، وَأقْرِرْ أعْيُنَنَا يَوْمَ لِقَائِكَ بِرُؤْيَتِكَ".

* أحباب الله وأمنية لقاء المعبود في الآخرة
في نهاية هذا المقطع يطلب الإمام عليه السلام من الله تعالى لقاء وشهود جمال كبريائه. وقد أشرنا سابقاً إلى مفهوم رؤية ولقاء الله في القيامة وقلنا إن اللقاء والرؤية لا يتحقّقان في الدنيا بسبب ما تتضمّنه الدنيا من محدوديّات.

وخلاصة الكلام؛ أنّ روح الإنسان في الدنيا متعلّقة بالبدن، وهذا التعلّق يؤدّي إلى وجود محدوديّات على مستوى الروح؛ لأنّ تحمّل البدن وقواه محدودة على مستوى الحالات الروحيّة وردّات الفعل النفسانيّة تجاه الأحداث السيّئة منها والحسنة. وفي بعض الأحيان، يكون البدن عاجزاً عن تحمّل ردّات الفعل هذه؛ لذلك قد يُغمى على الإنسان نتيجة الشوق الكبير، مثلاً: عندما تلتقي الأم بابنها البعيد عنها لسنوات، يغمى عليها عند لقائه من شدّة الشوق وقد تُصاب بعارض أمثال السكتة القلبيّة وما شابهها. ومن هنا، يمكن القول إنّ بدن وأعصاب وذهن الإنسان قد تكون عاجزة عن تحمّل كلّ لذّة؛ كما تكون عاجزة عن تحمّل أيّ مصيبة؛ وعليه، فالإنسان في الدنيا عاجز عن تحمّل اللذّة الحاصلة من مشاهدة نور الله اللامتناهي وجماله الذي لا حدود له. كما إنّ النبيّ موسى عليه السلام وهو من الأنبياء أولي العزم لم يتمكّن من تحمّل لقاء الله ورؤية جماله. طلب عليه السلام من الله أن يريَه نفسه وقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾، فجاءه الجواب: ﴿قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 143).

الواضح أنّه إذا كان تجلّي الله على الجبل يؤدّي إلى تلاشيه؛ ما أدّى إلى دهشة النبيّ موسى عليه السلام، فالإنسان عاجز في الدنيا عن إدراك لذّة لقاء الله.
وفي النتيجة، فإنّ بنيتنا الماديّة لا تسمح بإدراك لذّة لقاء الله، ولكن في الآخرة حيث لا محدوديّات ماديّة، يمكن حصول لقاء الله للإنسان وبالأخصّ لأولياء الله.

يقول الإمام عليه السلام في نهاية المناجاة: "وَأخْرِجْ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِنَا، كَمَا فَعَلْتَ بِالصَّالِحِينَ مِنْ صَفْوَتِكَ وَالْأبْرَارِ مِنْ خَاصَّتِكَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أكْرَمَ الْأكْرَمِينَ".

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع