صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

وصايا العلماء: مناجاة الزاهدين(4): وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)



"إلَهِي فَزَهِّدْنَا فِيهَا وَسَلِّمْنَا مِنْهَا بِتَوْفِيقِكَ وَعِصْمَتِكَ، وَانْزَعْ عَنَّا جَلَابِيبَ‏ مُخَالَفَتِكَ، وَتَوَلَّ أُمُورَنَا بِحُسْنِ كِفَايَتِكَ، وَأوْفِرْ مَزِيدَنَا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ، وَأجْمِلْ صِلَاتِنَا مِنْ فَيْضِ مَوَاهِبِكَ".
إنّ روح مناجاة الزاهدين للإمام السجّاد عليه السلام والرسالة الأساس لها هي التوجّه والطلب من الله تعالى؛ لأنّ الأصل الأوّل في تعاليم الإسلام هو الدعوة إلى التوحيد، وتجلّي روح التوحيد على امتداد الأعمال والسلوكيّات والأقوال، ومن جملة ذلك الأدعية والحاجات.


* تجلّي روح التوحيد في سلوك أحباب الله
يجب أن نوقن أن أمورنا كافّة ومن جملة ذلك طلباتنا إنّما تتحقّق بإرادة الله تعالى ومساعدته، فلو لم يكن عون من الله لا يتحقّق أيّ شيء. يجب علينا لأجل تثبيت روح التوحيد والاعتقاد بأنّ الأمور كافّة تجري بإرادة الله تعالى وأن لا خالق سوى الله ولا قدرة وراء قدرته، أن نقرأ سورة الحمد في صلواتنا فنخاطب الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة: 5)، وعندما نرفع رؤوسنا من السجود ونقوم إلى الركعة الثانية ونقول: "بحول الله وقوّته أقوم وأقعد".

طبعاً، الله تعالى يقدّم لنا العون في العالم عن طريق الأسباب والعوامل الموجودة ويجب علينا أن نستفيد من الأسباب الموجودة بين أيدينا، وأن نلتفت إلى أنّ الأسباب قد هيّأها الله تعالى أيضاً وجعلها من جملة النعم الإلهيّة. وعليه، كلّما قصُرت أيدينا عن الوصول إلى الأسباب، أو لم نتمكّن من الوصول إلى ما نريد بواسطتها، حينها يبقى أن نطلب المَدد من الله تعالى.

* طرق التقليل من الاهتمام بالدنيا
بما أنّ الإنسان يعيش في الدنيا وهو على اتّصال بالماديّات، فهو يستأنس بها ويحصل على لذائذ من خلالها. أمّا الحكمة في وجود ملذّات كهذه فهي أنّ الإنسان يهيّئ احتياجاته من خلالها. ومع ذلك يجب أن يسعى الإنسان ليستفيد من ملذّات الدنيا في حدود الضرورة حتى لا يتعلّق بالدنيا، ويتمكّن من التغاضي عنها.

1- الالتفات إلى عيوب الدنيا

من جملة طرق التقليل من الاهتمام بالدنيا والتعلّق والانخداع بها، الالتفات إلى عيوبها. وإذا دقّق الإنسان في عيوب الشيء مضافاً إلى ملذّاته، فلا يُخدع به. من هنا أشار الإمام عليه السلام إلى عيوب الدنيا الكميّة والكيفيّة. وأشار الله تعالى إلى ذلك في آية مختصرة، إلّا أنّها بليغة وعميقة وذات مضمون كبير، وقارن بين الدنيا والآخرة فأكّد على أفضليّة الآخرة كمّاً وكيفاً؛ وبالتالي بَيَّن عَيْبَيْن عامّين للدنيا، أحدهما كمّي، والآخر كيفيّ. يقول الله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (الأعلى: 17).

الملذّات الأخرويّة أعلى من ناحية الكيف والشدّة من ملذّات الدنيا. أمّا من الناحية الكميّة فملذّات الدنيا زائلة ومحدودة؛ وأمّا ملذّات الآخرة فباقية وأبديّة، وعندما يقارن الإنسان العاقل بين ملذّات الدنيا وملذّات الآخرة، يجب عليه أن يرجّح الملذّات الأخرويّة الأكثر عدداً، مضافاً إلى كونها أبديّةً على الملذّات الناقصة والمحدودة والزائلة كما هي الحال في ملذّات الدنيا.

2- الدنيا محلّ مليء بالآلام والمشقّات

الطريق الثاني للتقليل من الاهتمام بالدنيا وعدم الانخداع بها، الالتفات إلى الآلام والمشقّات والصعاب التي تعترض الإنسان فيها (هذا من مصاديق الالتفات إلى عيوب ونواقص الدنيا). فمن جملة خصوصيّات الجنّة أنّ الإنسان لا يمسّه فيها أيّ ألم وتعب ومشقّة.﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ (فاطر: 34 - 35).

إنّ كلّ عمل يأتي به الإنسان في الدنيا مترافق مع المشقّة. كما إنّ التفكير والطعام لا يخلوان من التعب والمشقّة. وعندما يتمتّع الإنسان بأفضل الملذّات ويصل إلى نهاية الإشباع منها، يشعر بالتعب. إنّ لكل حاجة عندنا مشقّاتٍ يجب أن نتحمّلها نحن والآخرون.
فعندما نريد تناول الطعام والخبز على سبيل المثال حيث تحصل لنا لذّة محدودة، يجب أن نلتفت إلى تعبنا في تحصيل الأموال لشراء الخبز والمشقة التي يتحمّلها الآخرون في إنتاجه. كلّ هذه المشقّات تحصل لنهيّئ إحدى احتياجاتنا ولنتناول الطعام ونلتذّ به مثلاً.

يضاف إلى ذلك أنّ بعض احتياجات الإنسان تحصل متأخّرة بشكل كبير، فقد يُتطلّب من الإنسان بذل مجهودٍ لعشرين سنة ليهيّئ المقدّمات لها، فالذي يرغب في الزواج على سبيل المثال، يجب أن يدرس لسنوات طويلة ويحصل على شهادة التخرّج، ثمّ عليه البحث عن عمل مناسب له ليتمكّن من تشكيل عائلة. وبعد مشقّة سنواتٍ طويلة يتزوّج ويشكّل عائلة. ومع كلّ ذلك فقد يخرج البعض ليدّعي أنه مع كلّ هذه الجهود التي بذلها كان موفّقاً فوصل إلى الهدف؛ وأمّا الذين لم يوفّقوا فسيعيشون الألم والتعب والمشقّة. ويجب أن نضيف إلى هذه الآلام والمشقّات بعض المشكلات الأخرى أمثال الأمراض والآلام وفراق الأحبّة. قد يقع زلزال فيفقد الشخص أحبّته وبالتالي يجب عليه أن يعيش الغصّة والألم إلى نهاية عمره.

* الزهد في الدنيا أمر محبّب عند أحباب الله
إذا دقّق الإنسان النظرَ في آفات ومصائب ومشقّات الدنيا -بالأخصّ إذا آمن بالآخرة والجنّة- الخالية من الآلام والمشقّات، ثمّ قارن بين الدنيا والجنّة، فلا يُخدع بملذّات هذه الدنيا المحدودة المترافقة مع المشقّات والآلام والبلايا ولاعتمد طريقة الزهد في الدنيا، وهو المقام الذي طلبه الإمام عليه السلام في مناجاته الله تعالى: "إلَهِي فَزَهِّدْنَا فِيهَا وَسَلِّمْنَا مِنْهَا بِتَوْفِيقِكَ وَعِصْمَتِكَ، وَانْزَعْ عَنَّا جَلَابِيبَ‏ مُخَالَفَتِكَ، وَتَوَلَّ أُمُورَنَا بِحُسْنِ كِفَايَتِكَ، وَأوْفِرْ مَزِيدَنَا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ، وَأجْمِلْ صِلَاتِنَا مِنْ فَيْضِ مَوَاهِبِكَ".

والزهد في الدنيا يعني عدم الاعتناء وعدم الرغبة فيها. والزاهد هو الذي لا يعتني بما حصل عليه من الدنيا وبما فقده منها. صحيح أنّ الزاهد لا يتوقّف عن العمل وبذل الجهد ويستفيد من الدنيا في حدود الضرورة، ومع ذلك فهو غير مهتمّ بالدنيا وغير معتنٍ بها. الزاهد مصداق لكلام الله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ (الحديد: 23).

الزهد المطلوب في الإسلام أن يتّخذ الإنسان من البساطة والابتعاد عن الترف أسلوباً للقيام بمسؤوليّاته بشكل أفضل وأن يبتعد عن المظاهر البرّاقة للحياة. البديهيّ أن هذا النوع من السلوك ليس لأنّ الدنيا ومظاهرها موصوفة بالبلادة وليس بسبب التضادّ الموجود بين الدنيا والآخرة أو للهروب من المسؤوليّات الاجتماعيّة؛ بل الزهد في الإسلام هو لأجل الإتيان بالمسؤوليّات بشكل أفضل وللتغلّب على الميول الإفراطيّة، ولأجل التوجّه الصحيح لمسألة التعلّق بمظاهر الحياة. وعليه، فالزهد يكبح روح الإنسان الطالبة للمزيد ويقضي على حالة الانهزام أمام مظاهر الحياة الدنيا. وعلى هذا فالزهد في الإسلام لا يتنافى مع امتلاك المال والمنصب.

في الحقيقة "الزاهد" هو الذي لا يحبّ مظاهر الحياة أكثر من الحقّ والله، وهو الذي لا يضحّي بالأهداف الإلهيّة في سبيل الأحداث الدنيويّة. وهو الذي جعل الأصل للآخرة والدنيا هي الفرع والوسيلة والمقدّمة للآخرة. إنّ مظاهر الحياة كافّة من قبيل المال والولد والمنصب من وجهة الإسلام هي أدوات للتكامل والتقدّم. إنّ جميع هذه الأمور هي نعم إلهيّة والاستفادة الصحيحة منها ورعاية الاعتدال فيها تؤدّيان إلى عمارة الدنيا والآخرة.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع