آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
ذمّ الله تعالى في بعض آيات القرآن الكريم الدنيا وتحدّث
عنها بأنّها ممزوجة بالخداع والمكر، وأوصانا أن لا نُخْدع بمظاهرها: ﴿فَلَا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان:
33).
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في بداية "مناجاة الزاهدين":
"إلَهِي أسْكَنْتَنَا دَاراً حَفَرَتْ لَنَا حُفَرَ مَكْرِهَا، وَعَلَّقَتْنَا
بِأيْدِي الْمَنَايَا فِي حَبَائِلِ غَدْرِهَا، فَإلَيْكَ نَلْتَجِئُ مِنْ مَكَائِدِ
خُدَعِهَا، وَبِكَ نَعْتَصِمُ مِنَ الاغْتِرَارِ بِزَخَارِفِ زِينَتِهَا، فَإنَّهَا
الْمُهْلِكَةُ طُلَّابَهَا، الْمُتْلِفَةُ حُلَّالَهَا، الْمَحْشُوَّةُ بِالْآفَاتِ،
الْمَشْحُونَةُ بِالنَّكَبَاتِ".
•الإنسان أسير مكر الدنيا وخداعها
يقدّم المقطع المتقدّم صورة مذمومة عن الدنيا؛ إذ يتحدّث الإمام عليه السلام عن
الإنسان في الدنيا باعتباره سجينَ مكانٍ مخيف، وقع في داخل بئر، وفي ورطة مهلكة
بسبب مكرها وخداعها، وتصبح آمال الإنسان فيها عبثيّة فاقدة للهدف، تجذبه الدنيا
ويستسلم في النهاية لها. ثمّ يدعو الإمام عليه السلام الله تعالى أن يكون ملجأً
للإنسان مقابل حبائل الدنيا وخداعها وأن يجعله في صيانته وعصمته، ليكون محفوظاً من
شرور الخداع وما تزيّنه للإنسان.
وهنا يُطرح أكثر من سؤال: لماذا نسب القرآن الكريم والعديد من الروايات، ومن جملتها
هذه الرواية، هذه النسب المذمومة إلى الدنيا؟ ولماذا أدخلنا الله تعالى دنيا فيها
المكْر والخداع وهي محلّ الفتن والشيطان؟
•الدنيا ممدوحة... ومذمومة!
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20).
الحياة الدنيا، حياة عَرضيّة، وهي زائلة، وسراب باطل، ولا تخلو من واحدة من الخصال
الخمسة الآتية:
الدنيا إمّا لعب أو لهو أو زينة أو أنها تفاخر أو تكاثر. وكلّ هذه الأمور هي
موهومات تتعلّق نفس الإنسان بها أو ببعضها، وهي أمور خياليّة وزائلة لا تبقى ولا
تأتي للإنسان بكمال نفسيّ وخير حقيقيّ.
ويصبح السؤال المتقدّم جديّاً إذا قارنّا بين ذمّ الدنيا الوارد في القرآن
والروايات والكثير من أحاديث أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة وبين مدح
الدنيا، حيث يقول الإمام عليه السلام في نهج البلاغة: "إنّ الدنيا دار صدق لمن
صَدَقَها، ودار عافية لمن فَهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها... ومهبط وحي الله،
ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة"(1).
وفي رواية أخرى يقول عليه السلام: "لا تسبّوا الدنيا، فَنِعم المطيّة للمؤمن،
عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر..."(2). فما سبب ذمّ الدنيا إذاً في هذه
المناجاة واعتبارها محلّ المكر والخداع والحيل؟
•أحسنَ كلّ شيء خَلَقه
الجواب: أنّ الدنيا ليست مذمومة وقبيحة من جهة كونها مخلوقة لله تعالى، فكلّ ما خلق
الله تعالى جميل: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾ (السجدة: 7).
إنّ العالم بأكمله، من وجهة نظر القرآن، والمخلوقات كافّة ذات نفع، وهي حسنة في حدّ
نفسها، ولا وجود للشرّ المطلق في مخلوقات الله تعالى. من جهة أخرى، فإنّ المخلوقات
كافّة ليست ذات عقل وشعور لتتآمر على الإنسان أو لتقوم بخداعه، بل إنّها مطيعة لأمر
الله تعالى وإرادته.
وإذا أردنا فهم سبب نسبة المكر والخداع إلى الدنيا وذمّها، مع العلم أنّ الدنيا
فاقدة للعقل والشعور، وهي لا تسيء الاستخدام فتتآمر على الإنسان لتفكّر في تحطيمه،
يجب أن نفكّر في سلوكنا وميولنا ورغباتنا. وفي هذا الإطار يمكننا الاستفادة من
الآيات والروايات. وبما أنّ الله تعالى قد أعطى الإنسان العقل والفطرة السليمة
الباحثة عن الله والحقّ ليبحث عن الجمال والأمور الحسنة، فما هي العوامل التي تؤدّي
إلى انحراف الإنسان عن مسير الحقّ والفطرة ومسيرة التكامل وبالتالي السقوط في حبائل
الشيطان؟
وما هي العوامل التي تدفع الإنسان لارتكاب المعاصي؟
•عوامل ارتكاب المعصية
1- العامل الأول: هو مظاهر الدنيا ولذائذها. إنّ وجود تلك الملذّات
وجاذبيتها الدنيويّة والغرائز الحيوانيّة تدفعنا نحو المعصية.
2- العامل الثاني: تزيين اللذّة من قِبَل الشيطان. هناك الكثير من التجارب
التي يتصوّر فيها الإنسان أنّ في ارتكاب المعصية والحرام لذّةً ما، فيبادر إليها ثم
يصاب بالندم. ومع ذلك، يميل من جديد نحو تلك المعصية. والسبب في ذلك أنّ الشيطان قد
زيَّن تلك اللذّة في أعيننا... وللأسف، فإنّ الإنسان يُخدع مرّة أخرى من خلال وساوس
الشيطان فيرتكب المعصية عينها.
يقول الله تعالى حول تزيين المعصية والحرام بواسطة الشيطان:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).
3- العامل الثالث: هوى النفس الذي يدفع الإنسان إلى تأمين غرائزه الحيوانيّة
وميوله، حتّى عن طريق المعصية والأمور غير المشروعة.
ولو لم تكن هذه العوامل الثلاثة موجودة لما ارتكبنا المعصية.
•التعارض بين الأفراد
يسعى البشر للوصول إلى النعم الدنيويّة من قبيل المأكل والمشرب وتأمين لذائذهم
الحيوانيّة. وتؤدّي المحدوديّة في تأمين هذه الاحتياجات إلى التزاحم والتعارض بين
الأفراد في الوصول إلى مصالحهم. إنّ هذه المحدوديّات وهذا التعارض بين الأفراد
للوصول إلى اللذائذ والاحتياجات، مصادر للمعصية أيضاً. وما يحصل من جرائم وقتل
وسرقة وكذب واتهام وجميع المعاصي كافّة التي يرتكبها الإنسان، مصدرها أنّ كلّ شخص
يسعى ليحصل على شيء يحرم منه الآخرين، سواء كان ذاك الشيء مقاماً أو مالاً وثروة.
•دور الدنيا في سقوط وانحراف الإنسان
اتّضح أنّ العوامل الثلاثة؛ أي اللذائذ الدنيويّة وهوى النفس والشيطان، تدفع
الإنسان إلى المعصية. طبعاً هذه العوامل ليست العلّة التامّة للإتيان بالمعصية، بل
كلّ واحدة منها علّة ناقصة وجزء العلّة التامّة، وأمّا الجزء الأخير للعلّة التامّة
في المعصية، فهو إرادة الإنسان وقراره النهائيّ في الإتيان بالمعصية.
إنّ النسبة إلى العوامل الثلاثة صحيحة من وجهة نظر القرآن الكريم والروايات. ومن
هنا يمكننا القول إنّ الدنيا دفعت بنا إلى الانحراف والسقوط. لو كنّا في الجنّة،
لما ارتكبنا المعصية؛ لأنّ في الجنّة لا وجود لأرضيّة التعارض والنزاع والمعصية
والانحراف. مع العلم أنّ في الدنيا توجد الأرضيّة المناسبة للهداية وعبادة الله
وعناصر تكامل وتعالي الإنسان كافّةً. ولو لم تكن الدنيا موجودة، لما كان هناك مجال
للكمال والتعالي.
الدنيا عملة ذات وجهين: من جهة تهيّئ الأرضيّة لتكاملنا وتعالينا. ومن هذه الناحية
هي مسجد أحباب الله، ومصلّى ملائكة الله، ومحلّ تجارة أولياء الله. ومن جهة ثانية،
فإنّ مظاهر الدنيا وتجلّياتها هي عامل انحراف وابتعاد عن الحقّ ووقوع في المعصية
والعصيان. إذاً، يمكن القول إنّ الدنيا تخدع الإنسان. وبما أنّ أغلب البشر يُخدعون
بالدنيا ومظاهرها؛ لذلك أوصت التعاليم الدينيّة بالاستفادة من الدنيا لأجل الإتيان
بالوظائف والتكاليف الإلهيّة، وحذّرت الإنسان أن يُخدع بالدنيا وأن تكون سبباً في
انحرافه وسقوطه.
•خليفة الله وجنّة الخُلد
ولكن، لماذا ننسب إلى الدنيا المكر والخداع مع وجود عوامل المعصية والانحراف فيها؟
وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن ندقّق في موارد استخدام الحيلة والخداع والمكر.
لنفرض أنّ شخصاً يتحرّك في مسير للوصول إلى مقصد ما، فإذا قام شخص بحرفه عن مسيره،
عندها يقال لهذا السلوك "خداع ومكر". ونحن خُلقنا لأجل هدف متعالٍ ومقدّس. ثم إنّ
هذا الهدف عظيم لدرجة أنّه أُطلق عليه مقام الخلافة الإلهيّة. يقول الله تعالى في
تبيين علّة خلق الإنسان والهدف الذي خُلق الإنسان لأجله:
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30).
فهيّأ الله تعالى الأرضيّات والعوامل كافّة، ووضع بين أيدينا الهداية الفطريّة
والهداية العقليّة بواسطة الأنبياء ودين الله لنعرف مسير الوصول إلى ذاك المقصد
ونتحرّك على أساسه. الآن لو ظهرت الموانع والعوامل التي تحرفنا عن مسير السعادة
والهداية وأدّت بنا إلى الوصول إلى جهنّم والحضيض بدلاً من الجنّة ورضوان الله
وابتلينا بالغضب الإلهي، فهل نكون قد أصبنا بالخداع والمكر؟ هل يُتصوّر خداع ومكر
أكبر من هذا حيث يصل الإنسان إلى عذاب جهنّم الأبديّ بدلاً من الوصول إلى الجنّة
الخالدة؟
1. نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج4، ص32.
2.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج7، ص509.