نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

تمشي إليك توسّلاً خطواتي




لم تعد الصور الجويّة لمدينة كربلاء قبل العشرين من صفر من كلّ عام، تثير الدهشة؛ رغم ضخامة مشهد السيول البشرية المتّشحة بالسواد التي تُقدَّر بعشرات الملايين حين تغطي جميع الطرق المؤدية إلى الإمام الحسين عليه السلام.
فكلّ زائر يؤمن بأنّ كل خطوة من خطواته تلك عبادةٌ وقرب، وكثير من الحبّ، حتى لو امتدّ مسيره إلى الإمام الحسين شهراً سيراً على الأقدام، تاركاً مشاغله، متجاهلاً كمّاً كبيراً من الجهد والمشقّة، يحمل أطفاله وعائلته في موكبِ عشقٍ.


من جهة أخرى، يتساءل كثيرون: ما هو الوجه الشرعيّ لهذه المسيرة الشاقّة في أربعين الإمام الحسين عليه السلام؟
وعلى فرض مشروعيّتها؛ ألا يمكن تحقيق فائدة عباديّة أكثر بالزيارة والصلاة والدعاء بدلاً من هذا المشي؟
نعم، قد يكون لطالب الثواب حديثٌ، كما لطالب المودّة والقرب حديث آخر. فلنتحدث مع الاثنين في هذا المقال.


* فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
تعدّ المشاهد المشرّفة والأماكن المقدّسة أرضاً طاهرةً مطهّرةً وبيتاً من بيوت الله تعالى، التي أمرَنا برفع قدرها ومنزلتها وتعظيمها، وقد قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ (النور: 36-37).

فعن أبي بصير أنّه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ قال: "هي بيوت النّبي صلّى الله عليه وآله"(1).

وإذ كانت العظمة والعلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلّا أن ينتسب إليه، وبمقدار ما ينتسب إليه، فالإذن منه تعالى في أن تُرفع هذه البيوت إنّما هو لانتسابها الخاصّ إليه، وبذلك يظهر أنّ السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، كما يقول العلّامة الطباطبائيّ (قدّس سره)(2).

* الزيارة: تعظيمٌ لشعائر الله
فهذا الانتساب التشريفيّ الذي حظيت به هذه البيوت والأماكن المقدّسة، هو الذي أوجب كونها من شعائر الله تعالى، وصار تعظيمها أمراً محبّباً ومطلوباً، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32).
وعلى هذا الأساس التوحيديّ لله تعالى وحده، تقوم كلّ الأعمال التي يؤدّيها الزّائرون إلى مشاهد النّبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، وذلك بجعلهم وسيلة إلى الله تعالى يتقرّبون من خلالها إليه لنيل رحمته ورضاه، وبتعليم وإشراف من الأئمّة عليهم السلام أنفسهم.
ومن هنا، كان الموالون والمحبّون لأهل البيت عليهم السلام على مرّ التاريخ -ولا زالوا- يخرجون لزيارة سيّد الشّهداء عليه السلام، في مختلف الظّروف والأحوال والمخاطر والأهوال، ويبذلون في ذلك الغالي والنفيس، من الأموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصّابرين.

* الحكمة في الحثّ على المشي
وإذا سأل سائل: لماذا يتجّشم الإنسان عناء المشي لزيارة المعصوم عليه السلام مع إمكان الوصول إلى رضى الله بطرق أخرى، أسرع وأسهل، أفليس قضاء الوقت وبذل الجهد في العبادة نفسها، أولى من بذلهما في المقدّمات وإضاعة الوقت فيها؟!
في الحقيقة، يشي هذا الكلام بشيء من الغفلة عن العديد من الأمور التي تُمثّل فوائد للموضوع، منها:

1- ترتّب الثواب للمشي كونه مقدّمة للزيارة:

ما أفاده الإمام الخمينيّ قدس سره من أنّ المشي إذا لم يكن له خصوصيّة ذاتيّة سوى كونه مقدّمة للزّيارة، إلّا أنّ الرّوايات رتّبت ثواباً كبيراً وأجراً جزيلاً للماشي إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام، لأجل الحثّ على أصل الزّيارة(3).
فإنَّ المولى الذي يهتمّ لأمر ويريد من عبده إنجازه، قد يقوم بإبراز اهتمامه ومحبّته له بشتّى الأساليب ومختلف الوسائل، ويرغّبه ويحثّه على تحقيقه، كالالتفات إلى مقدّمات العمل وما يتحمّله ذلك العبد في سبيل إنجازه، ما يرفع شأن العمل وقيمته بشكلٍ خاصّ عند المولى.

2- في المشي خضوع لله:

يشير الإمام الخمينيّ قدس سره أيضاً إلى أنّ في المشي خصوصيّة في نفسه، كونه أقرب إلى الخضوع لله تعالى ولأوليائه عليهم السلام، فيكون بذلك مرجّحاً لنفسه مضافاً إلى كونه مجرّد مقدّمة للزّيارة(4).
ولا يخفى الأثر النفسيّ والأخلاقيّ المعنويّ الذي يجده السائرون في الأرض تحت أيّ عنوان من عناوين طاعة الله والتقرّب منه، والحسين عليه السلام أحد هذه الأبواب.

* المشي الراجح

حثّت الرّوايات على المشي في موارد عدّة: المشي إلى المسجد(5)، المشي إلى المسجد لصلاة الجماعة(6)، المشي إلى صلاة الجمعة(7)، المشي إلى الحج(8)، المشي إلى العمرة(9)، المشي في الجنازة(10)، المشي إلى صلة الرَّحِم(11)، المشي في حاجة المؤمن(12)، المشي إلى زيارة المؤمنين(13).

وعليه، ثمّة موارد متعدّدة من المشي الرّاجح، حثّت عليها الشّريعة ورتّبت الثواب على كلّ خطوة أو قدم يرفعها، وليس ذلك إلّا لكون تلك الموارد تقرّباً إلى الله تعالى بالأعمال الصّالحة.

* المشي إلى زيارة سيد الشهداء عليه السلام

ما تقدّم، كان في الموارد العامّة للمشي، أمّا في خصوص المشي لزيارة الحسين عليه السلام، نجد روايات خصّصته وحثّت عليه، حيث دلّت على فضله وثوابه، وأورد علماؤنا أبواباً في مصنّفاتهم بعنوان: "ثواب من زار الحسين عليه السلام راكباً أو ماشياً ومناجاة الله لزائره" أو بعنوان: "باب استحباب المشي إلى زيارة الحسين عليه السلام"، منها:

1- بكلّ خطوة حسنة:
عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "يا حسين، مَن خرج مِن منزله يريد زيارة قبر الحسين بن عليّ عليهما السلام، إن كان ماشياً كتب الله له بكلّ خَطوة حسنة، ومحى عنه سيّئة، حتّى إذا صار في الحائر كتبه الله من المفلحين المنجحين..."(14).

2- غفران ذنوبه من أوّل خطوة:
عن بشير الدّهّان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الرّجل ليخرج إلى قبر الحسين عليه السلام، فله إذا خرج من أهله بأوّل خطوة مغفرة ذنوبه، ثمّ لم يزل يقدّس بكلّ خطوة حتّى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله تعالى فقال: عبدي سَلْني أُعطِكَ، ادعُني أُجِبْكَ، اطلب منّي أُعطِكَ، سلني حاجةً أقضِها لك"، قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: "وحقّ على الله أن يعطي ما بذل"(15).

3- بكلّ خطوة حسنات وأجر شهيد:
عن عاصم بن حميد الحنّاط قال: سألت جعفر بن محمد عن زيارة قبر الحسين عليه السلام، فقال: "يا عاصم، مَن زار قبر الحسين وهو مغموم أذهب الله غمَّه، ومن زاره وهو فقير أذهب الله فقره، ومن كانت به عاهة فدعا الله أن يُذهِبها عنه أذهبها عنه واستُجيبت دعوته وفرّج همّه وغمّه، فلا تدع أنْ تأتيه، فإنّك كلما أتيته كتب لك بكلِّ خطوةٍ تخطوها عشر حسنات ومحى عنك عشر سيئات، وكتب لك ثواب شهيد في سبيل الله أُهريق دمه، فإيّاك أن تفوتَك زيارتُه"(16).

4- بكلّ خطوة درجات وأجر من استشهد مع الحسين عليه السلام:
عن صفوان قال: استأذنت الصادق عليه السلام لزيارة مولانا الحسين عليه السلام، فسألته أن يعرّفني ما أعمل عليه، فقال:" يا صفوان: ... فمن زار الحسين عليه السلام بهذه الزيارة كتب الله له بكل خطوة مائة ألف حسنة ومحى عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة وقضى له مائة ألف حاجة أسهلها أنْ يزحزحه عن النار، وكان كمن استشهد مع الحسين عليه السلام حتّى يُشركهم في درجاتهم"(17).

ذكر الروايات لهذه الخطوات وأجرها واضح الدلالة في الحثّ والندب على زيارة الحسين عليه السلام مطلقاً، والمشي وعناؤه مقدّمة معتبرة.

* الأثر المعنويّ
كلّ ما تقدّم كان حديثاً في الأجر والثواب، وما أفادته الروايات عن المشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، لكنّ إشارة الإمام الخميني قدس سره في كون هذا المشي أقرب خضوعاً لله تعالى، هي بحدّ ذاتها غدت طلباً للمحبّين ولأهل مودّة آل البيت عليهم السلام.
حيث تشير مجموعة من الروايات إلى حال الزائر الذي يقصد زيارة الإمام الحسين عليه السلام، وتوصيه بالمشي برويّة، واستشعار الانكسار القلبيّ، والخضوع والخشوع، بل توصيه أيضاً بالمشي حافياً: "فإنّك في حرمٍ من حرم الله وحرم رسوله"(18).

فقد يُفهم من جملة هذه التوصيات الفائدة المعنويّة، واستحضار قضية الإمام الحسين عليه السلام بما تحمله من قيم ومبادئ، يستشعرها الإنسان خلال هذا العمل، يشعر أحياناً بهجير الصحراء، وقسوة الشمس، وتباعد الأطراف، والجهد والعناء رغم كونه يحمل ما يحتاجه، ويوجد في الطريق من يُضيفه ويُعينه، لكنّه بذلك يستحضر الإمام الحسين عليه السلام، وحال ركبه، وأصحابه، وعياله وحال المسير والسبايا بين الواقع المخفّف وبين القضية التاريخية الحيّة.

قد يحمل هذا الاتجاه مثاليّةً ما، لكن لن يختلف اثنان أنّه دافعٌ حقيقيٌّ لأن يقول هذا الزائر في مواقف حياته الصعبة: "يا نفس من بعد الحسين هوني... وبعده لا كنتِ أن تكوني..." وهو المطلوب.

إنّ تحصيل هذه التربية المعنوية مقصدٌ أساس عند المحبّين، الذين لا يحتاجون إلى البحث عن دليل يعدهم بحسنةٍ أو يُطفئ سيّئة.

* في حبِّ الحسين عليه السلام
وفي الختام، بتنا نفهم قول الشاعر؛ حين قال:

وَأَعُدُّهَا إِذْ إِنَّهَا حَسَنَاتِي

تَمْشِي إلَيْكَ تَوَسُّلَاً خُطُوَاتِي

مِنْ مَوْلِدِي سَيْراً لِحِينِ مَمَاتِي

وَوَدِدْتُ أَنْ أَمشِي الطَّرِيقَ لِكَرْبَلا

أَفْنَيْتُ فِي حُبِّ الْحُسَيْنِ حَيَاتِي

لأُنَادِي فِي يَوْمِ الحِسَابِ تَفَاخُراً


1.الكافي، الكليني، ج8، ص331.
2.الميزان في تفسير القرآن، الطّباطبائي، ج15، ص126.
3.يراجع: أنوار الهداية في التّعليقة على الكفاية، الإمام الخميني، ج2، ص132- 133.
4.(م.ن).
5.وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج5، ص201، باب 5 من أبواب أحكام المساجد حديث 3.
6.الأمالي، الصّدوق، ص517.
7.دعائم الإسلام، القاضي النّعمان، ج1، ص182.
8.وسائل الشّيعة، (م.س)، ج5، ص201.
9.(م.ن)، ج14، ص317.
10.الكافي، (م.س)، ج3، ص173.
11.من لا يحضره الفقيه، الصّدوق، ج4، ص16.
12.وسائل الشّيعة، (م.س)، ج11، ص582.
13.(م.ن)، ج 14، ص590.
14.كامل الزّيارات، ابن قولويه، ص252- 253.
15.(م.ن)، ص253- 254.
16.فضل زيارة الحسين عليه السلام، محمّد العلويّ الشجريّ، ص64.
17.مصباح المتهجِّد، الشيخ الطوسيّ، ص427.
18.الكافي، (م.س)، ج4، ص576.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع