ديما جمعة فوّاز
ما سرّ زيارة الأربعين؟ ولماذا لا نكتفي بها مرّة واحدة في العمر؟ لماذا تتحوّل إلى
شعيرة محبّبة تطلبها نفوسنا وتنتظرها من عام إلى آخر؟ ما سرّ تدافع الملايين في
الأزقّة الضيّقة والحارات طوال النهار دون تعب أو كلل؟
لعلّها تلك المشاهد التي تعود إلى الواجهة من جديد، فترتسم أمام الزائرين واضحة،
ملوّنة، هنا، سار موكب عزيزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هنا، في المخيّم،
بتنَ لياليهنّ آمنات مُكرمات، ليُحرق بنو أميّة في الليلة الحادية عشرة الخيام،
فتتعثّر رقيّة بثوبها المشتعل وتحتضن الرّباب رضيعها عبد الله مُدندنة أنشودة
الشهادة وتفرّ رقيّة من سياط الحقد المنصبّة على جسدها الرضّ.
هناك وقف أبو الفضل معتذراً من أخته زينب عليها السلام، وقربه قلّدت ليلى السيف
لعليٍّ الأكبر. هنالك تبارى الأصحاب في تدوين أسمائهم بلون الدم القاني في أعظم
الملاحم التاريخية، وعند تلك التلّة وقف إمامنا ينادي يوم العاشر: "ألا من ناصر
ينصرني".
في الأربعين، تسمع صدى ندائه فتلهج طوال الوقت: "لبّيك يا حسين".
تبحث عن مصدر أنين الثكالى وعويل الأطفال، لتعي أنّك تُبصرهم بعين قلبك، فتُدرك
أكثر فأكثر هول الفجيعة.
ما سرّ زيارة الأربعين؟ وكيف يتمّ تأمين الطعام والمنام والأمن لملايين الناس؟ كيف
تكون هناك وتشعر أنّك مجرّد طائر يحلّق ضمن سرب هائل من المحبّين، طائفاً بخشوع حول
المقام، تتحرّك بهدوء خشية أن تُزعج أسراب الملائكة؟
لعلّها أسئلة تتردّد كلّ عام ولن نجد لها إجابة أبداً، ولكن، إن كنت ممّن حظوا
بزيارة الأربعين، فلن تعود إلى وطنك محمّلاً بهموم السفر ومتاعب الإقامة، ستهون
أمام ناظريك كلّ ما مررت به من انتظار لساعاتٍ في المطار أو مضايقات مختلفة، ستعود
دون أن يشغل بالك سوى ذاك الحبيب الذي زرته، وتمتمت عند باب مقامه آيات الولاية
وشعرت به يجيبك ويحيّيك لقدومك.
ستشعر بالخجل من القول إنّك تعبت، أو مشيت أو سهرت. بالأصل لن تتذكر تلك التفاصيل،
لن تذكُر سوى أنوار القبّة المضاءة وحولها الملايين، لن تذكُر سوى ضجيج الطرقات
بالعاشقين الذين يفترشون الأزقّة ليقيموا الصلاة في أوّل وقتها..
ستذكر مواكب الندب والحزن، بكلّ لغات العالم. لن تفرّق بين الهنديّ والأفغانيّ،
وبين الباكستانيّ والعجميّ؛ لأنّ ملامحهم ستكون واحدة، عيونهم دامعة وشفاههم ذابلة،
وسترى انعكاس صورتك في تقاسيم وجوههم لتشعر بأنّكم جميعاً إخوة في حبّ الحسين عليه
السلام.
ما سرّ زيارة الأربعين؟ وكيف نختصر الحياة ببضع خطوات من النجف إلى كربلاء؟ كيف
ترتبط خطواتنا بنبضات القلب لتشتدّ كلّما اقتربنا من الهدف؟
لماذا تشعر بعد وصولك أنّك قمت بأهمّ إنجاز في حياتك ولن تحصل على مجد أفضل أو أكثر
رقيّاً؟!
الأربعون، هي "اللّغز" الذي سيزيدك إصراراً على حلّه حين تطأ قدماك تلك الأرض
المضرّجة بدماء أقدس البشر، فتقرّر كلّ عام أن تحلّ "اللغز" وتتوسّل إلى الله أن
تكون من زوّار الإمام عليه السلام، في الأربعين!