يقول الله تعالى في الكتاب الكريم: ﴿وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا
يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى
وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ
إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ *
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ
للهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (القصص: 68-75).
•سبحان الله عمّا يشركون
في هذه الآيات يتحدّث الله تعالى للناس عن مسألة الشرك؛ أي عبادة غير الله مع الله
عزّ وجلّ. والشرك أنواع منه: شرك المشركين الأوائل الذين كانوا قبل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وشرك الذين كانوا في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
﴿جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ﴾ (الرعد: 16)، وهم
الأصنام: هُبل، اللّات، العزّة ومناة... فزعموا أنّها وسيلة تقرّبهم إلى الله.
وهناك نوعٌ من أنواع الشرك يتحدّث عنه القرآن كثيراً، وهو شرك الذين يقولون: "لا
إله إلّا الله". فكيف يكون مشركاً من يقول: "لا إله إلّا الله"؟
•معنى "لا إله إلّا الله"
إنّ معنى لا إله إلّا الله أنّه لا يوجد إلهٌ في الأرض ولا في السماء غير الله. مَن
يقول: "لا إله إلّا الله" يعلم أنّ استمرار الكون والوجود هو من الله، فإذا توقف
المددُ من الله انتهى. حياتنا في كلّ لحظة تستمدّ وجودها من الله عزّ وجلّ، فلا
توجد لحظةٌ يمكن للمرء أن يستغني فيها عن ربّه أبداً، سواء أطاعه أم عصاه. أنا
أتذكّر باستمرار دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام حيث يقول في دعاء السحر: "إلهي
لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكُر بي في حيلتك" ثمّ يقول: "لا الذي أحسن استغنى عن
عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يُرضك خرج عن قدرتك"(1). إذاً، معنى أن
نقول "لا إله إلّا الله"، أنّ وجودنا وحياتنا هما من الله في كل الأحوال.
إنّ الله وحده لا إله إلّا هو يعني أيضاً أنّ ما نأكل، وما نشرب، وما نتمتّع به هو
من عند الله، وكلّ الوجود هو من عند الله. كان الفلّاح عندما يزرع يقول: يا ربّ أنا
العزّاق وأنت الرزّاق، ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ *
أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ (الواقعة: 63-64).
فالله ينبت الحَبّ ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾
(الأنعام: 95)، ويهيّئ الجوّ المناسب، والحرارة المناسبة والظروف
المناسبة إلى آخره... حتى الرزق هو من الله.
باختصار، إنّ كل شيءٍ خلقه الله هو ضروريٌّ لكم، فهذا الكون بكل تفاصيله نحن
بحاجة إليه كما هو.
•بين الشكر والطاعة
وجودنا من الله -استمرار وجودنا من الله- ورزقنا من الله. وهذه العناصر الثلاثة
تحتّم علينا واجب العبودية لله والشكر له، حتّى لو لم يجعل الله لأعمالنا ثواباً
ولا عقاباً، وهذا المعنى أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "إلهي، ما
عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك"(2).
أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إنّه لو لم يكن نار ولا جنّة، نار للعاصي وجنّة
للمطيع، الله يستحقّ العبادة شكراً.
الشكر إذاً يقتضي أن تُطيع الله في ما أمرك. ولقد جعل الله تعالى لنا إبراهيم عليه
السلام مثلاً، وجعل يوم إبراهيم عليه السلام يوم عيدٍ حتّى لا ننسى ما فعل النبيّ
إبراهيم عليه السلام؛ إذ قال تعالى: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا
أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
(الصافات: 102). فإبراهيم عليه السلام كان رجلاً كبيراً في السن وأنجب ولده
على كِبر، ومع هذا أُمِر بذبحه بيده، فأخذه ليذبحه
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ (الصافات: 103)
واستسلم لأمر الله ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ (الصافات: 103-107).
إذاً، المسألة تعني أيضاً الاطمئنان إلى أنّ الله تعالى لا يأمرك بما يضرّك. يختبرك
حتّى إذا ثبت له صدقك يقطع عنك الاختبار، ثمّ تأتيك رحمته. هذه قاعدة. إذاً، الله
يستحقّ الشكر، ولذلك مرّ في الآية الكريمة: ﴿قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً
وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس:
59). الله تعالى هو الذي خلق الرزق، وله وحده الأمر والمنع.
•فرق بين الطاعة والعبودية
مقتضى الشكر أن تُطيع الله عزّ وجلّ، فإذا أطعت غير الله فقد جعلته مع الله شريكاً.
ولكن ما الفرق بين الطاعة والعبودية؟ إذا اتّفقتُ مثلاً مع أحد ما على العمل عنده
مدّة سنتين على أن يعطيني مالاً مقابل هذا العمل، فإذا طلب منّي أن أبدأ عملي من
الصباح الباكر، أكون قد أطعته. وهذا ليس عبوديّة؛ لأنّي في الحقيقة أكون قد وفيتُ
بالعقد الذي وقّعته معه ونحن هنا متكافئان. هو قدّم المال وأنا قدّمت عملي. وهذه في
الحقيقة ليست طاعة، وإنّما تنفيذ عقد بيننا. وعندما يأمرني أبي بأمر مثلاً وأمتثل
له فهذا طاعة، لكنّها طاعة مشروطة بما أمر الله؛ إذ إنّي أطيع أبي امتثالاً لأمر
الله.
•السجود لآدم... طاعة لله
قال تعالى: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ﴾
(الإسراء: 61). السجود لآدم عليه السلام في هذه الآية المباركة كان طاعة
لله، وامتثالاً لأمره. لقد أمر الله إبليس والملائكة بأن يُكرّموا آدم عليه السلام
بالسجود. يوجد إذاً نوعان من الطاعة: طاعة بشروط، وطاعة بلا نقاش؛ وهي العبوديّة.
أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بأن يذبح ولده. لم يناقشه إسماعيل عليه السلام
ولم يجبه بالقول: لماذا؟ ما الفائدة؟ وما معنى هذا المنام؟ بل قال:
﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾. إذاً، الذي
يعبد الله هو الذي يطيع الله بلا نقاش، وهذه العبودية. وإلّا من يطيع بأمر ولا يطيع
بأمر آخر فهذا عابدٌ لنفسه وليس عابداً لله، بل جعل لله شريكاً إمّا في هواه، أو في
رغبته أو في موقفه... إلى آخره.
•لماذا الحسين عليه السلام وارث إبراهيم عليه السلام؟
ما نستفيده من الآيات الواردة في البداية، أنّه يأتي الله بالشهداء يوم القيامة،
يأتي على كل أمّةٍ بشهيد، فإبراهيم عليه السلام يأتي على أمّته شهيداً، وأبرز مثلٍ
في شهادته أنّه أخذ ابنه ليذبحه امتثالاً لأمر الله..
ومن جملة الشهداء العظام الذين يأتون يوم القيامة شهداء على الناس، أبو عبد الله
الحسين عليه السلام الذي كما تقرأ في الزيارة: "السلام عليك يا وارث إبراهيم
عليه السلام خليل الله". نسأل بماذا ورث أبو عبد الله عليه السلام إبراهيم عليه
السلام؟ ورثه بأنّه عندما رأى أن الله تعالى يريد له أن يذبح نفسه وأولاده في سبيل
الله أطاع. لقد امتحن الله إبراهيم عليه السلام فلمّا رأى صدقه رفع عنه البلاء،
وامتحن الله الحسين عليه السلام فثبت عليه السلام في الصدق حتّى النهاية طمعاً في
الأجر العظيم، طمعاً في جزيل الرضوان من الله. قدّم أبو عبد الله عليه السلام نفسه
وأولاده، وأعزّ ما قدّم عبد الله الرضيع، هذا الطفل الذي كان يُنتظر أن يكون من
بقيّة الحسين عليه السلام؛ حتّى هذا الطفل عندما رأى الحسين عليه السلام أنّ في
تقديمه لله رضى، حمله وجاء به إلى العسكر، فلما ذُبح على يده من الوريد إلى الوريد
رمى بدمه إلى السماء، وقال: "اللهمّ، إنْ كان هذا يُرضيك، فخُذْ حتّى ترضى.
اللهم إنْ كان هذا يُرضيك، فخُذْ حتّى ترضى".
هؤلاء الشهداء الذين نتذكّرهم، يجب أن نتذكّر أنّهم سيكونون شهداء علينا يوم
القيامة، سيقال لنا: لقد كنتم تسمعون قِصصهم، فلمَ لم تعتبروا؟
إذا امتحن اللهُ تعالى عبداً وصدقه العبد، أجزل له في الدنيا، وأجزل له في الآخرة.
فإن أجَّل عنه جزاء الدنيا قليلاً، جعله في عقبه. العمل الصالح ثوابه في الدنيا
والآخرة، وليس كما يفهم بعض الناس خطأً أنّ الله يؤجّل ثواب الصالحات دائماً. إذا
رأى الله مصلحة الإنسان في أن يؤجّل ثواب الصالحات قليلاً يؤجّلها، فيكون في
تأجيلها زيادةٌ لها ونماءٌ. وكلّما تأخّرت عند الله يوماً تزداد ازدياداً عظيماً،
لأنّه "ولعلّ الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور"(3).
اللهمّ علّمنا كيف نكون من عبادك الصالحين، متّعنا بالصالحات من أعمالنا في الدنيا
والآخرة، إنك سميع الدعاء.
(*) درس ثقافي ألقاه فضيلته في تاريخ 3/4/1983م.
1.الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين عليه السلام، ص214.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ص67، ص186.
3.مصباح المتهجّد، الطوسي، ص564.