مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

سيرة: بحث حول سيرة الإمام السجاد عليه السلام

القائد آية الله السيد على الخامنئي

* المواجهات الشديد مع علماء البلاط
في تتمة بحثنا حول القضايا المرتبطة بسيرة الإمام السجاد - عليه السلام - وأساليبه وخططه لإيجاد الأرضية المساعدة للحركة التي يمكن أن تنتهي إلى إقامة الحكومة العلوية الإسلامية، ذكرنا ما ملخصه أن هذه التحركات كانت تتّجه إلى التبيين والتوضيح عند البعض، وإلى التشكيلات والتنظيم بالنسبة للبعض الآخر، وإلى الهداية والإرشاد بالنسبة لآخرين.

وهكذا يُتخيل الإمام السجاد من خلال هذه الصورة - التي قدمناها - إنساناً صبوراً سعى خلال 30 أو 35 سنة متواصلة إلى جعل تلك الأرضية السّيئة جداً في عالم الإسلام، إلى جعلها تتجه نحو الظروف التي يمكن له "ع" أو لخلفائه أن يحققوا من خلالها المجتمع الإسلامي، والحكومة الإسلامية.
ولو فرضنا أن تلك السنوات الخمس والثلاثين من عمره الشريف لم تكن موجودة لَقطعنا بعدم وصول الأمر إلى الإمام الصادق عليه السلام بتلك الحال التي تمكن معها من التصرف والتعاطي الصريح والواضح مع الحكم الأموي، والعباس فيما بعد.
وعليه، فلأجل إقامة وتحقيق المجتمع الإسلامي، لا بد من الأرضية الفكرية والذهنية بل وتعتبر أهم من أي شيء. هذه الأرضية التي تطلب تحققها في ذلك العصر - في عَالَمِ الإسلام - سنواتٍ عديدةً من العمل المتواصل، ذلك العمل الذي نهض به الإمام السجاد عليه السلام متحملاً أعباءه الجسيمة وتكاليفه الباهظة.

إلى جانب هذا، نجد في حياة الإمام السجاد عليه السلام بعض المساعي الأخرى التي تدل في الواقع على مدى تقدم الإمام في المجال المذكور.
والقسمُ الأعظم من هذه المساعي، سياسيٌّ، وأحياناً شديد القساوة، وأحد نماذجه مواجهته، وكيفية تعامله مع العلماء التابعين، والمحدثين الكبار العاملين لصالح النظام الحاكم.
ولعل أكثر الأبحاثِ المتعلقة بحياة الأئمة إثارةً هو قضية تعامل الأئمة عليهم السلام مع حملة الفكر والثقافة في المجتمع الإسلامي، أي العلماء والشعراء.

فالأئمة كانوا يتحملون مسؤولية هداية الناس في أفكارهم وأذهانهم، وأولئك كانوا يوجهون الناس إلى الوضع الذي يريده خلفاء بني أمية وبني العباس، والتسليمِ لأعمالهم.

* احتياج الظلمة إلى جعل الأحاديث
كما نعلم، فإن الحكام الظالمين: كان يرون في جذبِ قلوب الناس إليهم، أهل عامل في بقاء ملكهم وسلطانهم. إذ لم يكن الفاصل الزمني بين الناس وبين صدر الإسلام كبيراً، وبالتالي كان إيمان الناس بالإسلام لا يزال قوياً.
وهم - الناس - إذا أدركوا أن البيعة التي قدموها للحكام ليست صحيحة. وأن هذا الظالم لا يجوز أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...

لو أدركوا ذلك فبالتأكيد لن يرضوا أن يسلّموه قيادهم بتاتاً، وحتى لو قلنا أن هذا الأمر لا يشمل الجميع، فعلى الأقل نقول: القدر المُسلّم أن الكثيرين كانوا يتحملون الوضع المنافي للإسلام في الجهاز الحاكم نتيجة الإيمان القلبي، إذ أنهم كانوا يظنون أن هذا وضع إسلامي.

ولإبقاء هذه الضبابية في أذهان الناس كان حكام الجور يستغلون المحدثين وعلماء الدين قدر الإمكان ويحركونهم طبقاً لمصالحهم فيطلبون منهم وضع الأحاديث واختلافها ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم والصحابة الكبار بما يوافق ميولهم وأهواءَهم.

في هذا المجال يوجد موارد تقشعر منها الأبدان، ونحن ننقل بعضها كمثال:
- في زمن معاوية. التقى شخص بكعب الأحبار. ولأن كعباً كانت له صلات حميمة مع معاوية سأل ذلك الشخص: من أين أنت؟
قال: من أهل الشام.
قال له: لعلك من ذلك الجيش الذي يدخل منه 70 ألف جندي إلى الجنة بدون حساب.
قال: من هم هؤلاء.
قال: أنهم أهل دمشق.
- قال: كلا لست من أهل دمشق.
قال كعب أذن، لعلك من ذلك الجيش الذي ينظر الله إليه كل يوم مرتين (!!)
- من هم هؤلاء
- أهل فلسطين.
وربما لو قال ذلك الشخص: أنني لست من أهل فلسطين، لأخبره كعب الأحبار أحاديث عن كل من أهالي بعلبك وطرابلس وبقية مدن الشام بحيث يبيّنُ له أنّ أهل الشام هم الأفضل، وأنهم أهل الجنة.

وكعب الأحبار كان يختلق هذه الأحاديث ويصفها إما تملقاً لأمراء الشام حتى يكون نصيبُه أكثر ومنزلته في قلوبهم أعلى. وإما بسبب العِداء المتجذر في نفسه للإسلام وبغيّة تدمير الأساس العظيم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
ويوجد في كتب التذكرات والرجال والحديث الكثير من هذه القصص. منها قصة ذلك الأمير الذي أرسل ابنه إلى المدرسة (الكتّاب) وهناك ضربه المدرِّس. عندما رجع الابن باكياً إلى أبيه وأخبره، غضب الأبُ وقال: سأذهب وأضع حديثاً على هذه المدرسة حتى لا يكرروا فعلتهم هذه.
ومن هذه القصة نعلم كم كان سهلاً اختلاقُ الأحاديث عندهم، حتى لو كان بدافع العصبية والشفقة على دموع الطفل.

وعلى أيّ حال فقد كان لهذا الوضع أثرٌ في إيجاد ذهنية وثقافة منحرفة عن الإسلام، وكان السبب في ذلك أولئك المحدثون والعلماء العاملون في خدمة السلاطين والأقوياء.
وفي هذا الوضع تعتبر مُواجهة هؤلاء عملاً في غاية الأهمية.

* بعض الأحاديث المختلقة من محمد الزهري
يوجد هنا نموذج يبين كيفية مواجهة الإمام السجاد عليه السلام لهذا الوضع:
تربط هذه المواجهة بمواجهة الإمام لمحمد بن شهاب الزهري.
كان محمد بن شهاب الزهري في البداية أحدَ تلامذة الإمام السجاد عليه السلام المقربين، أي أنه من جملة الذين تعلموا علومهم ونقلوا الأحاديث عن الإمام، ولكن بالتدريج - بسبب التجرؤ الذي كان فيه - اقترب من نظام الحكم حتى صار أحد أعوانه وتحوّلَ إلى واحدٍ من الذين واجهوا الإمام.

ولأجل أن نطلع أكثر على وضع الزهري، ننقل عدة أحاديث بشأنه:
أحد هذه الأحاديث، ما جاء عنه: "كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء فرأينا أن لا يمنعه أحد من المسلمين".
ويفهم من هذا الحديث أنه حتى ذلك الزمان لم يكن متعارفاً بين هذه الطائفة من المحدثين بأنّ كل ما يعلمونه من الأحاديث ينبغي أن يكتبوه، وكذلك يتضح أن محمداً بن شهاب الزهري كان في خدمة الأمراء وأنه كان يحمل على كتابة الأحاديث التي تناسبهم.
أحدهم ويدعى معمر كان يقول: كنا نظن أننا قد نقلنا من الزهري أحاديث كثيرةً إلى أن قتل الوليد. فعندها رأينا كتباً كثيراً تحمل على ظهور الدوابّ وتُخرج من خزائن الوليد ويقال: هذا علم الزهري: أي أنّ الزهري وضع من الأحاديث التي تناسب الوليد وأهواءَه ما عجزت عن حمله الرجال. ماذا تتصورون أن تكون تلك الأحاديث؟ مما لا شك فيه أنها لا تدين الوليد وإنما تؤيد أعماله وتصحّحها.

ويوجد حديث آخر يتعلق بفترة ارتباط الزهري بالنظام الحاكم. فقد روى اليعقوبي في تاريخه:
"أن الزهري نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى وأن الصخرة التي وضع رسول الله قدمه عليها تقوم مقام الكعبة".
ويعود هذا الحديث إلى ذلك الزمان الذي كان عبد الله بن الزبير حاكماً على مكة، والناس الذين يريدون الحج بطبيعة الحال لا بد وأن يدخلوا مكة - وهي تحت نفوذ ابن الزبير - وكانت تلك الأيام فرص مناسبة له للتبليغ ضد أعدائه - وخاصة عبد الملك بن مروان - ومن جانب آخر بما أن عبد الملك كان يدرك خطورة هذا الأمر، ولكي يمنع الناس من الذهاب إلى مكة رأى أن أفضل الطرق هو وضع أحاديثَ تبيّنُ أن شرافة القدس بمنزلة شرافة مكة: ونحن نعلم - في العرف والثقافة الإسلامية - أنّه لا توجد منطقة في العالم توازي الكعبة شرفاً ومكانةً ولا يوجد حجر في الدنيا يضاهي الحجر الأسود. فكانت تلك الأحاديث المجعولة وسيلة لعبد عبد الملك لكي يدفع الناس للذهاب إلى المسجد الأقصى الذي كان تحت نفوذه بدلاً من مكة المكرمة.

* فإلى أي مدى كان لهذه الأحاديث تأثيرٌ في نفوس الناس وأفعالهم؟

وهل حدث في زمن ما أن الناس حجوا إلى بيت المقدس بدلاً من مكة أم لا؟ ولو حدث ذلك لكان ينبغي أن نعد المجرم الأصلي أو أحد المجرمين محمداً بن شهاب الزهري الذي حرف الأمر في أذهان الناس لأجل مآرب عبد الملك السياسية.
وعندما يصبح الزهري تابعاً لجهاز الخلافة، فلن يمنعه شيء من وضع الأحاديث ضد الإمام السجاد عليه السلام والتنظيمات العلوية. منها ما وجدته في كتاب "أجوبة مسائل جار الله" - تأليف المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين - حيث يدعي الزهري في رواية أن أمير المؤمنين كان جبرياً، وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال في معنى الإنسان في الآية: وكان الإنسانُ أكثر شيء جدلاً أنه أمير المؤمنين عليه السلام (والعياذ بالله).

في رواية أخرى ينقل أن حمزة سيد الشهداء كان شارب خمر، وإنما جعل هاتين الروايتين لدعم الجبهة السياسية – لعبد الملك وبني أمية - مقابل أئمة الهدى عليهم السلام، وبالتالي لنسف صورتهم بعنوان أنهم المسلمون الأوائل، ويعرفهم على أنهم مثل غيرهم من العوام والمقصرين في تطبيق أحكام الدين.

وهذه الرواية تشير إلى وضعية محمد بن شهاب الزهري في مرحلة التبعية والارتباط ببلاط الحكم. ومن يطالع في أوضاعه الاجتماعية والفكرية يتبين له شخصيته بشكل واضح. وأنا أترك هذا الأمر إلى كتب الرجال.
حسناً، مثلً هذا الشخص الذي يتمتَّع بنفوذٍ ومنزلةٍ عاليةٍ في جهاز الحكم وبين الناس، لاشك أنه موجود خَطرٌ على الثورة الإسلامية، وينبغي أن يُتَّخذ موقفٌ بشأنه.
                                                                                                                                                                                                                                            (يتبع)


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع