القائد آية الله السيد علي الخامئني
ذكرنا في الحلقة السابقة أن الإمام السجاد عليه السلام
قام بتوجيه عدة أنواع من الخطابات حسب الفئة المخاطبة وقد فصّلنا الحديث حول النوع
الأول وهو الخطاب الموجَّه إلى عامة الناس.
* بناء الكوادر
النوع الثاني من البيانات هو تلك التي يوجه فيها الخطاب لمجموعة خاصة. هذه الخطابات
وإن لم يعلم منها بالتحديد من هي تلك الفئة المخاطبة، ولكن من الواضح أنها لفئة
مخالفة للنظام الحاكم وأفرادها هم في الواقع من أتباع الإمام عليه السلام ومن
المعتقدين بحكومة أهل البيت عليهم السلام.
ولحسن الحظ أننا نجد في كتاب تحف العقول نموذجاً من هذا النوع من البيانات (وذلك
لأننا لا نجد في غيره من الكتب موارد أخرى من هذا النوع بالرغم من أن هناك الكثير
من مثل هذه البيانات في حياة الإمام السجاد عليه السلام، ولكن على أثر الحوادث
المختلفة التي جرت في ذلك العصر من القمع والتنكيل والاضطهاد وقتل الأصحاب زالت تلك
الآثار وبقي القليل منها).
يبدأ الخطاب التابع لهذا النوع الثاني هكذا: "كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي
الحاسدين وبطش الجبَّارين".
ويعلم من هذا البيان أن الإمام والجمع الحاضر مهددون من قبل السلطات الحاكمة. وأن
المسألة ترتبط بمجموعة خاصة: هم المؤمنين بأهل البيت عليهم السلام ولذلك جاء الخطاب
بصيغة "يا أيها المؤمنون" خلافاً للنوع الأول حيث يستعمل "يا أيها الناس" أو "يا
ابن آدم". وذلك لأن الخطاب موجه إلى المؤمنين في الحقيقة بأهل البيت وأفكار أهل
البيت عليهم السلام.
والدليل الآخر الواضح جداً عندما يقول عليه السلام: "لا يفتننكم الطواغيت
وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها، المقبلون عليها".
فالمقصد الأصلي من الكلام هو حفظ هؤلاء المؤمنين وبناء الكادر اللازم للمستقبل ومن
الواضح أنه على أثر الصراع الشديد في الخفاء ما بين أتباع الأئمة عليهم السلام
وأتباع الطواغيت فإن أتباع الأئمة عانوا من الحرمان الكبير، كما حدث في مرحلة
جهادنا: أولئك الذين كانوا يواجهون الحكم قبل انتصار الثورة بالتأكيد لم يكونوا في
حالة الراحة التي كان يعيشها غيرهم، وإنما كان السجن والنفي، والخوف والتعذيب
والهروب عنوان حياتهم. فإذا كان أحدهم تاجراً أو بائعاً مثلاً يفرضون عليه ضرائب
أكثر من الحد المعمول به. وإذا كان طالباً جامعياً يبقى دائماً مراقباً وقد يخرجونه
من الجامعة. وإذا كان معمماً يلاحق ويعتقل أو ينفى، أو إذا كان إدارياً يعزل أو
يعلَّق راتبه. فمهما كان المجاهد ومن أية طبقة كان في زمن الشاه كان يعاني من حرمان
مادي ونقص في الأموال. بل إنهم منعوا البعض من الذهاب إلى الحج وذلك بالتضييق عليه
أو منعه من السفر.
والخطر الأكبر الذي يهدد المجاهدين هو أن يتوجهوا إلى الرفاهية، هذه الرفاهية التي
لن تجرهم إلا إلى ترك الجهاد.
لقد كان الإمام عليه السلام يؤكد كثيراً على هذه النقطة ويحذر الناس من الرفاهيات
في هذه الدنيا المتلألئة الكاذبة الخداعة التي لن تؤدي إلاَّ إلى التقرّب من
الطواغيت. لهذا فإنكم تجدون في هذا البيان وفي العديد من بيانات الإمام السجاد عليه
السلام وفي الروايات القصيرة التي نقلت عنه تأكيداً على هذا الأمر.
ماذا يعني التحذير من الدنيا؟ يعني حفظ الناس من الانجذاب نحو أصحاب الرفاه
والإيمان بهم وتمييزهم بحيث تخف حدة مواجهة الناس لهم. وبالطبع فإن هذا النوع من
الخطابات موجه للمؤمنين، أمَّا في الخطاب المتوجه إلى عامة الناس فقليلاً ما نجد
مثل هذا النوع. ففي خطاب عامة الناس كما ذكرنا سابقاً كثيراً ما يظهر: أيها الناس
التفتوا إلى الله، إلى القبر والقيامة، إلى أنفسكم والغد. فما هو هدف الإمام عليه
السلام من هذا النوع الثاني من الخطاب؟ المقصود هو بناء الكادر.
فهو عليه السلام يريد أن يصنع من المؤمنين كوادر ملائمة للمرحلة ولهذا فإنه يحذرهم
من الانجذاب نحو أقطاب القدرة والرفاهية الكاذبة ويكرر ذكر النظام الحاكم خلافاً
للنوع الأول من البيانات، كما يقول مثلاً: "وإن الأمور الواردة عليكم في كل يوم
وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة
الشيطان". وهنا نجد أن الإمام مباشرة بعد ذكر هيبة السلطان وقدرته يذكر وسوسة
الشيطان، يريد بذلك أن يلفت النظر إلى حاكم ذلك الزمان ويضعه إلى جانب الشيطان. وفي
تتمة الكلام جملة ملفتة جداً (ولأنها مهمة جداً أنقلها وهي تحكي عن مطلب ذكرته
سابقاً): "لتثبّط القلوب عن نيتها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحق"
(تلك الهداية الموجودة الآن في المجتمع).
فالإمام السجاد عليه السلام يعظهم بنفس الأسلوب السابق، فهو يحذرهم من مجالسة أهل
المعاصي. من هم أهل المعاصي؟ أولئك الذين جُذبوا لنظام عبد الملك الظالم. الآن
حاولوا أن تتصوروا شخصية الإمام السجاد عليه السلام، وأن تكوّنوا تصوراً عنه. هل ما
زال ذلك الإمام المظلوم الصامت المريض الذي لا شأن له بالحياة؟ لا فالإمام هو الذي
كان يدعو مجموعة من المؤمنين والأصحاب ويحذرهم، بهذه الكيفية التي ذكرناها، من
التقرب إلى الظلمة ونسيان المجاهدة ويمنعهم من الانحراف عن هذا الطريق، كل ذلك لأجل
أن يكونوا مؤثرين في إيجاد الحكومة الإسلامية.
(يتبع)