نايفة شلهوب
مرّت الحقبة التي حكم فيها الإمام الحسن عليه السلام
بأزمات واضطرابات وقلاقل، لم تنته فقط بانتقال الحكم إلى معاوية تحت ضغط ظروف صعبة
وحسّاسة، بل انتهت بأسوأ من ذلك، إلى سوء فهمٍ لموقف الإمام الحسن عليه السلام،
انعكس مظلوميّة لهذا الإمام العظيم، عند الأقربين قبل الأبعدين، حتّى غدا شرح موقفه
عليه السلام من مسألة الصلح يكاد يكون هو الموضوع الأبرز لمن يريد أن يتناول سيرته
وتاريخه.
* القبول بالخلافة مغامرة
إنّ منطق الأحداث يقودنا إلى الاستنتاج بأن الإمام الحسن عليه السلام كان يعلم أنّ
الحرب ضد معاوية ومواجهته عسكرياً أمر لا بدّ منه، بل لا يمكن تجنبه، وأن مجرّد
تولّي الإمام الحسن عليه السلام الخلافة سوف يكون مغامرة غير محمودة، لو أنه كان
يخطط للصلح من حين تسلُّمه الخلافة، فإن تسلّمه الخلافة، سيؤدي حتماً إلى حصول
مواجهة عسكرية مع الدولة الأموية الناشئة، فنجده يحثّ الناس على الجهاد وقتال أهل
الشام(1) ويسير من الكوفة على رأس قوة كبيرة، ذكر البلاذري أنها بلغت خمسين ألف
مقاتل(2).
* الثغرة في معسكر الإمام الحسن عليه السلام
يبدو أن الذي كان راغباً في الصلح ومتزلزلاً وشكّل الثغرة الكبرى في معسكر الإمام
عليه السلام، هو أهل العراق، الذين تعبوا من حروب الإمام علي عليه السلام
العقائديّة والتي لم يستفيدوا منها شيئاً على مستوى المادّة والغنائم، فكانت روح
التخاذل والميل إلى الدّعة والطمع بالصلح، لعلّ معاوية يسير فيهم بسيرته في أهل
الشام، هي التي أحدثت الثغرة الرئيسة في معسكر الإمام الحسن عليه السلام.
فالإمام الحسن عليه السلام لم يطلب الصلح، بل كان مضطراً إليه، إثر طعنه وتفرّق
أصحابه عنه، وكتابة جماعة من رؤساء القبائل ووجوه أهل العراق إلى معاوية بالطاعة له
في السرّ، وحثّهم إيّاه على السير نحوهم، على أن يضمنوا له تسليم الحسن عليه السلام
إليه(3)، ممّا مكّن معاوية من السيطرة على العراق(4). فقد رفض الإمام الحسن عليه
السلام عروضاً ماليّة من معاوية منها قطيع من الإبل أولها بالمدينة وآخرها
بالشام(5)، وأن يعطيه كل سنة ألف ألف درهم، وأن يجعل له خراج "فسا" و"دار أبجرد".
* الاختلال الحادّ في موازين القوى
لقد اجتمعت عوامل مختلفة، بل كانت مختبئة داخل النفوس والواقع الاجتماعيّ والسياسيّ،
وتضرب جذورها في تاريخ الإسلام إلى أيام الدعوة النبويّة، بل إلى ما قبل ذلك، إلى
أيام الجاهلية، تراكمت وتجمّعت، وأصبحت يوم دخل معاوية العراق مرضاً عضالاً، لا
علاج له إلّا بالصلح والتنازل.
فقد حسمت قريش القويّة والمقتدرة، بالتحالف مع القبائل المؤالفة لها، مسألة
الاستيلاء على منصب الخلافة؛ ما أدى إلى انتعاش الروح القبليّة وانبعاثها من جديد،
ونشوء ظاهرة الخنوع والخضوع للسلطان الجائر. واستطاعت مؤسسة الخلافة بعد الانتصار
في حروب الردّة مواصلة إقصاء الوصيّ الشرعيّ، خاصةً بعد الفتوحات حين أخرجت أمّة
العرب من ديارها، وهي ما زالت لا تعرف دينها ولا قرآنها، وأبعدتها عن إمامها، وخلقت
لها قيادات جديدة، حتّى قال الإمام عليّ عليه السلام: إنّ الفتوحات رفعت ذكر أناس
وأخملت ذكر آخرين، ونحن ممّن خمل ذكرهم. لقد واصلت قريش التضييق على أهل البيت
عليهم السلام ومنع بني هاشم من تولّي المناصب الحكوميّة، فنُصِّب معاوية حاكماً
مطلقاً على بلاد الشام.
* بين جيشَيّ العراق والشام
كانت الشام من قبل تحت حكم البيزنطيين، فوجد فيها معاوية تقاليد عريقة في الحكم
والإدارة، كما وجد جهازاً إدارياً متمرّساً ساعده على أداء مهمّته في فترة التأسيس،
وكان يدفع لكلّ جنديّ يذهب إلى القتال، مئة دينار، ولم يكن له الخيار.
إنّ العرب الذين نزحوا إلى العراق وسكنوا في مدينتين أنشئتا حديثاً وهما البصرة
والكوفة، حافظوا على الأساليب التي حملوها معهم، فبقيت كلّ تقاليد القبيلة من عدم
التنظيم وعدم الوحدة وعدم وجود حكومة مركزية، فبقوا قبائل متفرقة. أمّا القبائل
العربية التي نزحت إلى الشام فقد ذابت في المجتمع المتمدّن إلى جانب الوضع الأمنيّ
المتين لمعاوية، وتعلّمت الطاعة والانقياد للسلطان، إلى جانب تربية الإكراه السلطويّ
في إجبار الناس على القتال.
* ميزان القوى ليس في مصلحة الإمام الحسن عليه السلام
ورث الإمام الحسن عليه السلام الانقسام والضعف؛ فقد نخرت العراق الفرقة والشقاق،
وظهرت فيه عدّة فرق وأحزاب كان أخطرها الخوارج؛ ما هيأ الأرضية لمعاوية كي يخترق
جبهته وذلك بإرسال الجواسيس والعملاء المزوّدين بالأموال الطائلة لتدمير الروح
المعنوية للناس.
هذه الأسباب وأسباب أخرى كثيرة يضيق المجال لذكرها أدّت إلى ضعف جبهة العراق.
والظروف في الشام والعراق لم تتغيّر، بل أصبحت أشدّ سوءاً في عهد الإمام الحسن عليه
السلام بعد أن اشتدّت الفرقة وظهرت الخيانة.
* الصلح بين الثابت والمتغيّر
عندما كانت الترتيبات تجري في المعسكرين استعداداً للحرب، أرسل معاوية وفداً إلى
الإمام الحسن عليه السلام.
إذاً، فإنّ عناصر القوّة في معسكر معاوية وعناصر الضعف في معسكر الإمام الحسن عليه
السلام ساعدت على لجوء الإمام الحسن إلى الصلح. والإمام عليه السلام كان يعلم أنّ
معاوية هدفه قتله أو أسره هو والإمام الحسين عليه السلام. فهو كان أمام خيارين
أحلاهما مرّ: إمّا أن يقوم بعملية استشهادية يكون فيها القضاء على البقية المتبقيّة
من الشيعة ويستشهد هو والإمام الحسين عليه السلام، دون أن يكون لذلك تداعيات ما
أنتجته عمليّة الإمام الحسين في كربلاء، وإمّا أن يصالح معاوية بشروط يفرضها الإمام
عليه السلام عليه، وكان معاوية قد أرسل له ورقة بيضاء ممهورة بإمضائه ليكتب عليها
الإمام عليه السلام الشروط التي يريد.
هذا هو المتغيّر، المرتبط بالزمان والمكان، والأسماء والحوادث المتفرّقة التي ارتبط
بعضها ببعض، واصطلح عليها في التاريخ السياسيّ بما سمّيَ صلح الإمام الحسن عليه
السلام مع معاوية.
وأمّا الثابت في هذه القضية التاريخيّة، فيدور حول محور واحد، وهو أنّ كل تطوّرٍ
وتحوّل في التاريخ السياسيّ، لا يستندُ إلى القيم الأخلاقية، سواء تلك المرتكزة على
الدين، أو على المشاعر الإنسانية، لا تصلُح وحدها لتحقيق التحوّل التاريخيّ للأمم
والشعوب والقضايا المختلفة، بل الذي يؤثّر إنّما هو موازين القوى، ويدخل فيها إلى
جانب ذلك وحدة الشعب وتماسكه، والثقة التامة غير المتزلزلة بالقيادة، والانصياع
لهذه القيادة، والاستقرار.
فصلح الحسن لم يكن ذا بعدٍ أخلاقيّ فقط حتّى يُتعب المؤرخون والباحثون والمفكرون
أنفسهم في تفسير تنازله لمعاوية، ويصل الأمر ببعض الشيعة في زمانه إلى اتّخاذ موقف
الحيرة من هذا الصلح والتلفظ بألفاظ قاسية مع الإمام، بل إنّ هذا الصلح هو نتيجة
طبيعية لانهيار موازين القوى بين العراق والشام لمصلحة معاوية.
(1) أنساب الأشراف، البلاذري، ج2 ص380.
(2) (م.ن)، ج2 ص393.
(3) (م.ن)، ج3 ص382 - 383.
(4) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص215.
(5) أنساب الأشراف، (م.س)، ج3، ص50.