آية الله الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
تشكّل الأجيال البشرية كافةً سلسلة مترابطة من البداية إلى النهاية. لذلك فإن التغافل عن الماضي وعدم الاهتمام بالمستقبل هما
سبب الذهول عن الحياة الحاضرة؛ إذ كيف لموجود لا دراية له بأحداثِ ماضيه ولا بما
ينتظره من وقائع في المستقبل أن يفكّر في نفسه، فيرتكز على اليقين العلميّ لتحقيق
العزم العمليّ؛ حتّى يستوعب سعادته المستقبليّة ويستكشف طريقها ويتمكّن من انتهاجها
حقّاً؟!
* الماضي والمستقبل: نظام عالميّ
إنّ خلق الإنسان عبارة عن حقيقة لها تاريخ قديم وعريق تُشكّل أساساً ومبدأً لتكوّن
نسيج من الصراع الداخلي بين السلم والحرب، والحِلم والبغض، والطمع والقناعة،
والمحبّة والكراهية الشخصيّة انتهاءً بالتولّي والتبرّي لكلّ فرد من أفراد الإنسان.
وإنّ ثمرة عقائد هذا الفرد وأخلاقه وأعماله على المستويين الفقهيّ والقانونيّ إنّما
ستظهر للوجود في إطار المستقبل البعيد.
أ- أحداث الماضي تؤثّر في المستقبل
إنّ قصّة آدم وحوّاء، وحسد إبليس واستكباره، وأهليّة آدم للخلافة الإلهيّة وتعليم
الله إيّاه أسماءه الحسنى وإنباء الله للملائكة بذلك، وأمر الله لآدم بعمارة الأرض
وهداية البشر من بين الأحداث التي سيكون لها الأثر في المستقبل. كما إنّ سقوط إبليس
في فخّ دائرة الأنا وحبّ الاستعلاء واكتساب المنافع الشخصيّة، وإرادة إفساد الآخرين
وإغوائهم، والإصرار على استعداء بني آدم، كلّها أحداث كانت وما زالت مؤثّرة في
تشكّل المجتمع البشريّ. وعليه كان من الأهميّة بمكان الإحاطة بقضيّة منجي العالَم،
ومحطّم عروش الطغاة، ومصلح الاعوجاجات، ورافع الآفات عن الأمّة وظهور الإنسان
الكامل المعصوم الساعي إلى إصلاح حال الأجيال الحاضرة.
ب- الإحاطة بالماضي ضرورة لإصلاح المستقبل
من جهة أخرى، إنّ الإحاطة بالماضي تعدّ أمراً أساسيّاً لإيجاد برنامج مناسب
للإصلاح. كما إنّ الإحاطة بالأحداث المستقبليّة الحتميّة أمر ضروريّ لبلورة ما يلزم
لذلك الإصلاح. فالمجتمع الذي يُقيّد نظره على زمانه الحاضر قاطعاً صلته المعرفيّة
بماضيه وبمستقبله، ينتهي به الحال إلى ملازمة عذاب القبر بين جدارَي الجهالة
بمتطلّبات الماضي والمستقبل. وأمّا الأُمّة المطّلعة على ماضيها ومستقبلها فكما
تستفيد من عِبر الماضي، فكذلك تستضيء طريقها بجرعات الأمل من خلال إحاطتها بالأحداث
المستقبليّة السعيدة. ثمّ إنّ من الضروريّ أن نأخذ بعين الاعتبار جملة من الأحداث
المستقبليّة بالإضافة إلى مسألة المعاد، فينبغي معرفة أوضاع العالم وأحداثه في آخر
الزمان، ولا سيّما عصر الثقافة العالميّة الشامل لغير واحد من مجالات الحياة.
* مستقبل العالم بين النّظم والعدل
هل يتّجه العالم نحو الهرج والمرج أم يتحرّك نحو النظم والنسق؟ لا يخفى أنّ الهرج
والمرج والفوضى عناوين غير قابلة للتنبّؤ والترقّب؛ باعتبارها أموراً فاقدة لأُطر
محدّدة، وعليه لا يمكن جعلها موضوعاً للبحث. وأمّا النظم فيقوم إمّا على أساس
محورَيّ الحقّ والعدل، وإمّا على أساس الظلم والجور، كما في الاستبداد والاستغلال
والاستعمار والاستعباد والاستحمار ونحو ذلك من أنظمة التسلّط التي لا يمكن لأيّ فرد
واعٍ بمبنى الخلقة أن يتقبّلها ويلتزم بها. بداهة أنّ العالَم الذي بدأ على أساس
الحقّ ينبغي أن يختتم على صراط الحقّ.
ويُلاحَظ في المقابل أنّ النظام الذي يقوم على محورَي الحقّ والعدل -الذي كان موضع
أمل الكثير من أفراد البشر ومورد قبول عدد غير قليلٍ من أصحاب الرأي- له عدّة
مصاديق مختلفة، منها ما هو ظلمٌ واستنقاصٌ من ساحة العدل، باعتباره باطلاً أُلبس
لباس الحقّ. ورغم أنّ هذه الألفاظ بلحاظ المفهوم واضحة ومطلوبة، إلّا أنّها بلحاظ
الحقيقة العينيّة مجهولة ومبغوضة. ويمكن التنظير لذلك بالنظام الماركسيّ الإلحاديّ
الذي ساق المجتمع نحو الباطل والظلم، زاعماً سيره حول محور الحقّ، وموهماً الناس
بأنّه يقوم على أساس العدل؛ باعتبار أنّ المستقبل حصاد لزرع الماضي. كما إنّ من
يؤمن بأنّ خلقة الإنسان أمر ماديّ محض لن يقدر تبعاً لهذه الرؤية على تحديد حقيقة
(هو الأوّل) ولا حقيقة (هو الآخِر).
* مستقبل العالم والعدل الإلهيّ
يقوم بناء خلق العالم والإنسان وترابط هذين العنصرين المحوريّين من وجهة نظر
الموحّدين الإلهيّين، على أساس الحقّ، فلا مكان للباطل في أيّ ضلع من هذه الأضلاع
المباركة. وفي القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ تدلّ على هذا الأمر وتشير إلى أنّ نظام
الوجود يتمحور حول الحقّ، ولا مجال للغة الباطل فيه إلّا السراب. وهناك من يفسّر
محوريّة الحقّ هذه على أنّها هندسة خلق العالم وآدم، وهناك من يدافع عن محوريّة
الحقّ باعتبار وقوعها ضمن دائرة مباني النظام الكونيّ. كما إنّ هناك من يطبّق
محوريّة الحقّ في كافّة المجالات؛ لأنّها تضمن ثبوت أجر التقوى وجزاء المعصية. وإذا
كان الله تعالى هو الناصر لهذه الطائفة، فقد أخبر في خاتمة صُحُفه (القرآن الكريم)
بأنّه سيحيي هذا العالم بالمنجي العادل على يد الموجود المبارك للإنسان الكامل
المعصوم، خاتم الأوصياء والأولياء، المهديّ الموجود الموعود عجل الله تعالى فرجه
الشريف.
* الحقّ والعدل في إطار الحكومة المهدويّة
إنّ مَن يؤمن بأنّ المستقبل ينبغي أن يتمركز حول محور الحقّ ويرى محوريّة الحقّ في
إطار نظام حكومة الفرد، ويعتقد بأنّ القانون الإلهيّ أساس حكومة الفرد -وهو أمر
منسجم مع قانون الخلق، لا أنّ حكومة الفرد ترتكز على الرأي الشخصيّ-، يمكن له في
الجملة أن يتقبّل الوجود المبارك للمهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف، مع
ضرورة التأمّل في ما إذا كان هذا الوجود شخصيّاً أم نوعيّاً. ويمكن تقييم الاختلاف
في منهج الحكومتين الفرديّة والجماعيّة عن طريق حوار الحضارات. وأمّا الاختلاف حول
المهدويّة الشخصيّة والنوعيّة فيمكن طرحه للحوار ضمن دائرة الملتزمين بتعاليم
المدرسة الإلهيّة والمؤمنين بنداءات علماء الدين الحقّة. وكيفما كان، فإنّ هذه
الآراء على اختلافها وتضاربها لا تخلو من ثمرةٍ.