سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
تحدّثنا في أعداد سابقة عن بداية الصراع بين آدم وإبليس
الذي أعلن هدفه في إضلال وُلد آدم، وذكرنا إمكاناته والأدوات التي لا تجعل له
سلطاناً على الإنسان إلّا بمقدار ما يسمح الإنسان نفسه بذلك، كما ورد في قوله
تعالى:
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر: 42). في معركةٍ مطلوبٌ فيها من الإنسان أن يُواجه
عدوّه وينتصر عليه، ما هي القدرات التي يستطيع من خلالها إلحاق الهزيمة بإبليس؟
* وسواسٌ خنّاس
يبدأ عمل إبليس مع الإنسان بالوسوسة. نحن لا نرى إبليس، ولا جنوده من الجنّ، ولا
نسمع وسوستهم، لكنّ الله سبحانه وتعالى حدّثنا عنهم، والأنبياء أيضاً، وقالوا لنا
إنّهم شاهدوا الشيطان وحادثوه، وتكلّموا معه. فما هو المعطى الحسّي الذي يقول: إنّ
الأمور جرت هكذا، بغضّ النظر عن البُعد الإيمانيّ والتعبّديّ، لنحاول أنْ نلامس
الموضوع حسيّاً، من خلال أمثلة عايشناها، وتجارب مرّ بها الجميع. فما زلنا في قلب
المعركة مع إبليس ومع النفس الأمّارة بالسوء.
إنّ ما نسمّيه "حديث النفس" هو في الحقيقة خليطٌ من وساوس إبليس، وتزييناته، وحديثه
وحديث النفس. نحن نعتقد أنّنا نتحدّث مع أنفسنا، ولكن في الحقيقة نحن نتحدّث مع
إبليس، فمعه يحصل النقاش والحوار، والجدل والصراع. ومكان هذا الصراع بالتعبير
القرآنيّ هو
﴿صُدُورِ النَّاسِ﴾،
ففي سورة الناس يقول عزّ وجلّ:
﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ *
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾؛
أي النفس البشرية.
* حديث النفس أم الوسوسة؟
توجد روايات كثيرة عن حديث النفس، بمعنى الوسوسة.
يمكن طرح أمثلة من بيئتنا مثلاً: في فصل الشتاء، عندما يشتدّ البرد، وأنت تشعر
بالدفء، ويُرفع أذان الفجر، عليك القيام إلى الصلاة. ولكن يأتي إبليس ليوسوس لك:
لمَ عليك أن تقوم الآن؟ ابقَ دافئاً ونائماً، فإذا لم تصلّ الفجر هذا اليوم لن يحصل
شيء، وبعد الظهر تصلّي الفجر مع الظهرين. قد تقول: كيف أترك الصلاة وهي مسألة كبيرة
وربّنا يحاسب عليها؟ فيقول إبليس: لا، الله غفور رحيم، الله يتوب على عباده،
وبإمكانك أن تتوب. كلّنا مرّ معنا هذا الحوار وبعضنا أصغى لإبليس ونام، وترك صلاة
الصبح. هذا من شواهد وسوسة الشيطان لنفس الإنسان.
مثلٌ ثانٍ عن الشباب، يوسوس لهم إبليس بالقول: أنت الآن ابن 15 سنة، لمَ لا تفرح
وتمرح وتتعاطى المخدرات، وتفعل ما تشاء؟ ثم بعد حوالي 10 سنوات، ترتّب أمورك، وتتوب
وتصبح مجاهداً، وتقاتل، وتعبد الله، وكلّ الفرص تكون متاحة أمامك. بعض الشباب يصغي
وبعضهم لا. إذاً، إبليس يتحدّث إلينا. وفي ظاهر الحال، يبدو حديثه منطقياً. ولكن
كلّ هذا يعتبر تسويفاً من إبليس: الإملاء، الإغواء، الإضلال، التزيين. لماذا سُمّي
تزييناً؟ لأنّ إبليس يسهّل المسألة لك ويلطّفها، ويزيّنها، ويعدك أيضاً بعدم دخولك
جهنّم، فالله يوم القيامة سوف يغفر لك ويرحمك.
إذا راجعتم أنفسكم قد تتذكّرون كثيراً من القصص التي حصَلت معكم وما زالت تحصل فــي
كلّ يــوم وفـي كــلّ ساعة.
من الأمور المتداولة بين الناس أنّه إذا كان شخص طيّب القلب، فإنّهم يجدون له
عذراً، ويستطيع أن يفعل ما يريد. فلو سرق هذا الشخص، يقولون: لقد سرق، لكن قلبه
طيّب، لقد قتل، لكن قلبه طيّب. لأنّ قلبه طيب لا توجد مشكلة، والله لن يحاسبه،
فالله ينظر إلى قلوبكم. هنا يستخدم إبليس الآيات والأحاديث ليضلّ الإنسان. وطبعاً،
هذا شكل من أشكال الوسوسة.
* إبليس يستغلّ نقاط الضعف
إبليس، في سياق عمله أيضاً، يستغلّ الفرص، كما في بعض الروايات، أو نقاط الضعف؛ إذ
توجد مواصفات معيّنة، وأوضاع معيّنة، يستفيد منها إبليس أقصى الاستفادة ويسهل عليه
ذلك. في الروايات ذُكر ما يُسمى "حبائل" إبليس، فلنقل إنّ لديه حبائل لغواية الناس
وإضلالهم. مثلاً، حبّة الرمل ينفخ عليها إبليس بدون حاجة إلى الحبل، ولكن مع الحجر،
الصخر، التلة، الجبل، أو سلسلة جبال، يحتاج إلى حبال قويّة وقد يشدّ ويشدّ ولا
يستفيد، وهكذا هم الناس. لكن في بعض الحالات تكون الأمور سهلة ولا تحتاج إلى أكثر
من نفخة واحدة.
* حيل إبليس
أ- الغضب: يصرِّح إبليس بأنّ الإنسان عندما يغضب يصبح في قبضته. فالغضب من
أخطر حالات الإنسان التي يستغلّها إبليس لتحقيق ما يريد. لذلك أمير المؤمنين عليه
السلام يقول: "احذر الغضب فإنّه جندٌ عظيم من جنود إبليس"(1). جنود إبليس
ليسوا مجرّد مجموعة سريّة، هم جند عظيم هائل، يستخدمهم إبليس لإغواء الناس
وإضلالهم.
وبالتجربة، عندما يغضب أحد ما، فإنّه يسبّ، يشتم، يكسّر، يهين، يكذب، وممكن أن
يقتل. عندما يغضب الإنسان يمكن أن يشعل حرباً إقليمية أو حرباً عالمية. لا نعلم
ماذا يمكن أن يفعل، كلٌّ على حسب إمكاناته وقدراته.
ب- العجب: يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاك والإعجاب بنفسك". عندما
يُعجب الإنسان بنفسه لا يرى عيوبها، يراها أرقى من نفوس الناس. هنا يكون قد علق في
شراك إبليس الذي يصبح له مدخل على كلّ علاقاته وكلامه وتقييماته وتقديراته... إلى
آخره. لذلك يقول الأمير عليه السلام: "إيّاك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك
منها، وحبّ الإطراء، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشيطان"(2). ليس مجرّد فرصة، بل من
أوثق فرص الشيطان.
ج- خلوة الرجل والمرأة من غير المحارم: يلتقي موسى عليه السلام بإبليس، ويدور
بينهما حوار، فيسأله موسى: متى تتسلّط على الإنسان؟ وأين؟ وكيف؟ -وموسى عليه السلام
معروف عنه قوّته- وممّا يقول له إبليس: ".. يا موسى لا تخلُ بامرأة لا تحلّ لك،
فإنّه لا يخلو رجلٌ بامرأة لا تحلّ له إلّا كنت صاحبه دون أصحابي". في بعض الفرص أو
في بعض الحالات، يرسل إبليس جماعته، أصحابه، جُنده، لكن في الحالات التي تكون على
درجة عالية من الأهمية، ولا يريد تضييع فرصة النصر الحاسم فيها والسيطرة، يأتي
إبليس شخصياً، وهذا معنى "كنت صاحبه"، وهذا يكون في حال الخلوة بين الرجل والمرأة
من غير المحارم.
* يحلّ دينكم عقدة عقدة
الأخطر في سياق عمل إبليس، هو الانتقال التدريجيّ، أمير المؤمنين عليه السلام يبيّن
كيفيّة عمل إبليس قائلاً: "ويريد أن يحلَّ دينكم عقدة عقدة"(3). لا يستخدم
ضربة قاضية، بل يستطلع؛ ليجد نقطة ضعفك، وأسهل طريقة فيستغلّها. هو لا يدخل من نقطة
القوة لدى الإنسان، بل يدخل من ثغرة يعتبرها هيّنة وسهلة. هذا ما يسمّى تسلّلاً.
ويبدأ بحلّ العقد عقدة عقدة.
قد يكون أحد ما يخاف الله: تقيّاً، ورعاً، طيّباً، يحبّ الناس ويخدم الناس، وهو
جالس بين مجموعة شبّان يسهرون في ليلة رأس السنة مثلاً، ومعهم تلك الحبوب المخدّرة،
فيقنعونه بأخذ حبّة. من تلك اللحظة يبدأ عمل إبليس إلى أن يصبح هذا الشابّ مدمناً،
وقد يسرق لشراء المخدّرات، وعندما يسرق قد يصبح جزءاً من عصابة للسرقة، وضمن عصابة
السرقة هذه فإنّه يقتل ويصبح مجرماً. إذاً، البعض يبدأ بحبّة مخدّرات، فسرقة،
فإجرام وقتل النفس المحترمة. إبليس يبدأ بخطوة، ويتقدّم خطوة فخطوة.
* اسجُدْ لي أُنْجِكَ
ورد -في رواية معروفة- عن أمير المؤمنين عليه السلام تتحدّث عن رجل زاهد، تقيّ، كان
يتعبّد في صومعته في الجبل بعيداً عن الناس، وكانت هناك امرأة لها إخوة وقد عرض
للمرأة شيء -في الأزمنة السابقة كان لدى الناس إيمان بموضوع وسوسة الجنّ وبوجود
النفس الشريرة- فقرّر الإخوة أخذ أختهم إلى هذا العابد؛ ليجد لها الحل، فزيّنت له
نفسه فوقع عليها، فجاءه الشيطان بعد أن أخطأ وزيّنت له نفسه فأخافه من الفضيحة وليس
من القتل. بالأصل هو لم يتوقّع أن يُقتل، بل أن يفتضح، لكنّ الشيطان قال له: اقتلها
فإنّهم إنْ ظهروا عليك افتُضِحت، فقتلَها ودفنَها، فجاؤوه وأخذوه وذهبوا به؛
ليفهموا ما جرى معه ويعرفوا مكان أختهم، فبينما هم سائرون إذ جاءه الشيطان، قال له:
إنّي أنا الذي زيّنتُ لك فاسجد لي سجدة أنُجِك من هذه الورطة، فسجد له، لكن هل
أنجاه الشيطان؟ كلا لم ينجه. وكان قد بدأ مع هذا العابد بـ"خلوة".
هذا التسامح في الخلوة في بيئتنا ومجتمعاتنا أدّى إلى التساهل في هذا الأمر بشكل
عجيب وغريب، وهذا ما يسبّب الكثير من البلايا والمصائب. هذه هي طريقة إبليس في
العمل.
(*) من كلمة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) - ليلة الخامس من شهر محرم
1438هـ/ 2016م.
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1459.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص263.
3- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج1، ص235.
Iraq
asdaltaei
2021-01-01 16:53:13
شكرا لجهودكم المخلصة