نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

اعبدوه حبّاً


الشيخ محمد ضعون


"العبادة" هي الهدف الأول لبعثة الأنبياء ورسالتهم تصدح بها حناجرهم وتجهر بها ألسنتهم في كلّ أمّة ﴿أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (النحل: 36)، وفي كلّ قوم ﴿اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (الأعراف: 65)، بل هي الغاية من عرض الأمانة على الإنسان وتكليف الجنّ والإنس ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(الذاريات: 56).

* هدف الخَلق
لم يخلقنا الله عزّ وجلّ للّعب واللّهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، ولا لنمشي على التراب ونأكل الطعام ثمّ نعود كما بدأنا وانتهت قصّة هذا الإنسان. بل خلقنا الله وكرّمنا وأعطانا منزلة تتمنّاها الملائكة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (البقرة: 30).

و"الخلافة" قوامها أن يعرف الإنسان ربّه حقّ معرفته. قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (الطلاق: 12).

و"المعرفة" قوامها العبادة، فالله لا يريد منّا الاستئناس من وحشة، ولا الكثرة من قلّة، ولا جَلب منفعة أو دَفع ضرر، بل يريد منّا أن نعبده حقّ عبادته. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (الذاريات: 56).

* العبادة لغةً
عند البحث عن "العبادة" في المعاجم لا نجد في تعريفات أصحابها ما يشفي الغليل؛ وذلك لأنّها فسّرت بأعمّ المعاني وأوسعها، فقالوا: "العبوديّة إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلّا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى"(1)، وقالوا: "أصل العبوديّة الخضوع والتذلّل"(2)، وقالوا: "العبادة: الطاعة"(3).

* العبادة اصطلاحاً
وأمّا اصطلاحاً فقد فسّر العلماء "العبادة" بتفسيرات لا تبعُد كثيراً عن التعريف اللّغويّ، فقال بعضهم "العبادة": هي إظهار التذلّل، وقال آخرون: هي إظهار الخضوع، وقالوا: هي الطاعة والخشوع والخضوع، وقالوا: هي أقصى غاية الخضوع.
وفسّرها العلّامة الطباطبائيّ قدس سره في تفسير الميزان بـ"المملوكيّة"، فقال: "فكأنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لربّه"(4).
ونصْب العبد نفسه في مقام "المملوكيّة" يظهر من خلال لسانه، ومن خلال سلوكه، فيقرّ بالملكيّة الصرفة لله عزّ وجلّ، فلا يرى لنفسه مع الله مقاماً أو مُلكاً أو أمراً أو غير ذلك.

* فطريّة العبادة
ثمّ إنّ "العبادة" نزعة متأصّلة في الإنسان، أكّد عليها الأنبياء والرسل عليهم السلام، وأيقظوا تلك الفطرة المكنونة في شخصيّته الظاهرة في سلوكه. يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم: 30).
وإقامة الوجه للدِّين تعني الإقبال عليه والتوجّه من دون غفلة لأنّه طريق السعادة للإنسان، ولذلك نجد هذه العبادة أمراً مشتركاً بين جميع الأمم على مرّ التاريخ. يقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا..(آل عمران: 64).
وهذا ما أكّده المؤرّخون. يقول "بلو تارك" المؤرّخ الأغريقيّ الشهير: "... من الممكن أن تجد مُدُناً بلا أسوارٍ، ولا ملوك، ولا ثروة، ولا آداب، ولا مسارح، ولكنّ أحداً لم يرَ قط مدينةً بلا معبدٍ، أو مدينة لا يمارس أهلها العبادة"(5).

* آداب العبادات
تنقسم العبادات في الإسلام إلى ثلاثة أقسام:
عبادات تختصّ بالأبدان: كالصّلاة والصّوم، وأخرى تختصّ بالأموال: كالزّكاة، والحقوق الواجبة المتعلّقة بالأموال، وعبادات تشمل: الأبدان والأموال كالحجّ والجهاد.
ولكلّ من هذه العبادات آداب تنقسم إلى نوعين: ظاهريّة وباطنيّة.

أ- الآداب الظاهريّة،
هي عبارة عن المستحبّات المذكورة في كتب الفقه والأخلاق.

ب- أمّا الآداب الباطنيّة،
فهي أمور روحيّة باطنيّة مرتبطة بروح الإنسان، من قبيل حضور القلب في الصلاة، والخشوع في الدعاء ونحو ذلك؛ وتُسمّى أيضاً بالآداب المعنويّة ومراعاتها شرطٌ لقبول العبادة وكمالها، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا يَكْمُل المؤمن إيمانه حتّى يحتوي على مائة وثلاث خصال: فعلٍ وعملٍ، ونيّةٍ، وظاهرٍ وباطنٍ. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا رسول الله ما يكون المائة وثلاث خصالٍ؟ فقال: يا عليّ من صفات المؤمن أن يكون: جوّال الفكر، جوهريّ الذّكر، كثيراً علمه، عظيماً حلمه..."(6).

* الآثار المعنويّة للعبادة
الأثر الأول: الفرديّ: وننظر إليه من جهتين:

الأولى: الجانب الروحيّ.
إنّ العبادات تصقل الروح وتطهّرها من كلّ شوائب الشّرك والمعصية، وتجذبها نحو الملكوت الأعلى، فتخرق حُجب الظلام والنور، كما جاء في المناجاة الشعبانيّة: "إلهي هَب لي كمال الانقطاع إليك، وأَنِرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حُجب النور، فتصل إلى معدن العظمة"(7). كما إنّها تشعل نار العشق في القلب فلا يرى العبد في الوجود إلّا المعبود وجماله. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله، وبعده، ومعه، وفيه"(8). ويقول في كلام آخر، إشارة إلى الدافع الأسمى للعبادة: "ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"(9).

الثانية: الجانب السلوكيّ.
ليست العبادة مجرّد حركات ظاهريّة تمارسها الجوارح، بل هي انعكاس الظاهر على الباطن، فيصيب القلب نوع من الإخبات، والتذلّل، والخضوع بين يديّ الله -عزّ وجلّ- فتتولّد التّقوى التي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في المعاصي، فيتربّى العبد على حُسن السّمت والسلوك. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام يقوّي الصبر، والزكاة تطهّر النفس البشريّة من الغلّ والبخل والطمع، والحجّ يعوّد على القول النقي، واللّفظ الجميل. يقول الله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (البقرة: 197).

كما إنّ "العبادة" طريق التوبة وتطهير القلب من دَرَن الذنوب ودَنَس المعاصي. يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "وأن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية"(10). فللوصول إلى التوبة النصوح لا بدّ من أن تذيق بدنك ألم الطاعة، من صلاة وصيام وذكر وجهاد. ومَنْ تذوَّق ألم الطاعة وَصَل إلى التوبة، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ? (هود: 114).

الأثر الثاني: الاجتماعيّ.
للعبادة آثار اجتماعيّة تنعكس على حياة الإنسان، وتؤثّر على علاقاته الإنسانيّة فتدفعه إلى التحرّر من الخضوع للطغاة، ومن سجن الشهوات، وزينة المال، وآفة الاستعلاء والسيطرة، وتتجلّى مظاهرها:

أولاً: بحسن العلاقة مع الآخر الذي يعطينا الشعور بقوة الجماعة والعاطفة المبنيّة على الوعي إلى جانب لذّة المناجاة الفرديّة.

ثانياً: إفاضة النِّعم. قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ (الأعراف: 96). فالإيمان والتقوى سبب لنزول بركات السماء وإخراج الأرض خيراتها وذلك بإنزال الأمطار، وإخراج النبات والكنوز من الأرض.

ثالثاً: إصلاح الأعمال وصلاح الأحوال. قال عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (الأحزاب: 70). وهذه عبادة إذا تحقّقت تحقّق الأثر المترتّب عليها المذكور في الآية نفسها: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا. فإنّ إصلاحَ الأعمال في الدنيا ومغفرةَ الذنوب في الآخرة، من الآثار المترتّبة على العبادة.

رابعاً: إعطاء القوّة التي نستعين بها في حياتنا. قال تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ (هود: 52).

خامساً: التنعّم بالحياة الطيّبة. قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (النحل: 97). فالإيمان والعمل الصالح تترتّب عليهما الحياة الطيّبة.

وفي الختام، لا بدّ من أن نعرف أنّ العبوديّة الخالصة لله عزّ وجلّ هي عين الحرية، تعتق العبد من رقّ المخلوقين، وتحرّره من الذلّ والهوان والخضوع لغير الله من أنواع الآلهة والطواغيت، التي تستعبد الناس وتسترقّهم أشدّ ما يكون الاسترقاق والاستعباد.


1- مفردات الراغب، الراغب الأصفهاني، ص330.
2- لسان العرب، ابن منظور، ج3 ص271.
3- القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ص311.
4- تفسير الميزان، الطباطبائي، ج1 ص24.
5- أديان العرب في الجاهلية، محمد نعمان الجارم.
6- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11 ص179.
7- مفاتيح الجنان، عباس القمي، ص265.
8- مسند الإمام عليّ عليه السلام، حسن القبانجي، ج1 ص150.
9- الوافي، الفيض الكاشاني، ج3، باب نية العبادة، ص70.
10- نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، ج4 ص98.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع