موسى حسين صفوان
ما برحت وسائل الإعلام، وما برح المثقفون والمحللون السياسيون والمنظرون الإستراتيجيون، منهمكين بوضع نظريات ورؤى تتناول مصير العالم، ما قبل انهيار المعسكر الاشتراكي وما بعده، وما قبل الحادي عشر من أيلول وما بعده، وكل تلك الرؤى ما زالت تُتْحفنا، حيناً بعد حين (بسيناريوهات) وحتميات قائمة كلها على معطيات وعناصر، لم تستطع التحرر بعد من ترسبات المرحلة السابقة...
وللمناسبة، فإن النزعة باتجاه البحث على حتميات تشبه السنن الطبيعية، سواء في التاريخ أو الاقتصاد أو السياسة، ما هي في الحقيقة إلا موروث ديني، سواءً كان ذلك في الشرق الإسلامي، أو الغرب المسيحي، أو حتى الأديان العالمية الأخرى، والتي ترى جميعها، على وجه الإجمال، أن حتمية الخلاص، وحتمية وصول العالم إلى غاية ما، أمر مؤكد... فعندما تجند العلمانيون منذ بداية عصر النهضة لمواجهة المفاهيم الكنسية وتحدي الحتميات الدينية، لم يستطيعوا التخلص من القبليات الثقافية الدينية، فشرعوا بوضع أنظومات إيديولوجية، ورسم حتميات لحركة التاريخ السياسي والاقتصادي بناءً على معطيات لا دينية...
لقد شهد العالم حتميات اقتصادية رأسمالية وأخرى اشتراكية، كما شهد حتميات سلطوية، أو ما أطلق عليه (ديكتاتوريات) رأس المال، (والبلوريتاريا) واليوم، يبدو أن العالم، لم يستطع التحرر من ذلك الموروث رغم وصول العلوم وخاصة العلوم الإنسانية إلى مستويات يمكن الإدعاء بأنها رفيعة المستوى... بيد أن الذين ينظّرون للسياسة، ويقودون حلبة الصراع السلطوي، يبدو أنهم، لا يقرؤون تلك العلوم بالشكل الكافي... لقد شهدنا، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي اتجاهاً غربياً يرسم (سيناريو) جديداً للعالم، فيما يعني تغيير خريطة العالم السياسية، وبالتالي الثقافية، تمهيداً لتحويل سيل المصالح والثروات، أكثر مما هو عليه، باتجاه الغرب، وبحجة أو بأخرى، ظهرت مقولات النظام العالمي الجديد، وبدأت ثقافة ما أطلق عليه "الكوننة"، كاصطلاح متداول لتعميم الأنماط الأميريكة والغربية، في خطة مدروسة بشكل محكم قائمة على النزعة التسلطية من ألفها إلى يائها... وها هي اليوم تستكمل فيما يطلق عليه ب(الحرب على الإرهاب) فيما يبدو أنه حرب باتجاه التنظير لحتمية الصراع الأخير والذي أطلق عليه صراع الحضارات وروج له مثقفو الغرب وما يزالون... في الجانب الآخر من الصورة، هناك صورة أخرى، ربما لا يراقبها العالم بما تستحق من العناية!!!
فمنذ مطلع القرن الخامس عشر الهجري جاء الإمام الخميني قدس سره ليعلن بداية الصراع بين قوى الشر وقوى الخير، بين المصالح المادية الكافرة والمستكبرة من جهة، وبين القيم الإيمانية السمحة التي تحمل لواء المستضعفين من جميع أنحاء العالم من جهة أخرى... لقد كانت دعوة الإمام الخميني رضي الله عنه في ذلك الحين مستهجنة، كأنما جاء من خارج (الهرمونيكا) السياسية والثقافية التي ألفتها الآذان... فهي مقولة، كان الكثير يظن أنها خارج التاريخ... فلم يعد الصراع بين الشعوب في هذا العصر المحكوم بقيم العلمانية والمصالح الاقتصادية، إثنياً ولا عرقياً، ولا أي شيء من هذا... إنه فقط صراع مصالح، ويتحدد الرابح والخاسر فيه وفق برامج الكمبيوترات الدقيقة، وحجم الترسانات التسليحية واللوجستية القائمة على أحدث الوسائل التكنولوجية... ولكن الإمام الخميني قدس سره، قال: يا مستضعفي العالم اتحدوا، وقال أيضاً، "إن هذا القرن هو قرن انتصار المستضعفين على المستكبرين"...
قال ذلك ومضى، فيما لا يزال المشروع الحضاري الذي أرسى قواعده قائماً يتحدى بمقوماته الحضارية والإنسانية، كل الأعاصير المعادية... ولا ننسى أن الإمام الخميني، وقبل انتصار ثورته بجيل تقريباً، قال يجب أن يرحل الشاه، ويجب أن تقوم حكومة إسلامية، ووضع أسس تلك الحكومة... ثم جاء ذلك اليوم ليدلل على سلامة رؤيته ووضوحها...
واليوم يعود الغرب عموماً، عن مقولات الصراع القائم على المصالح الاقتصادية... لقد انتهت الحرب الباردة، ولم يعد هناك ترسانات أسلحة تهدد المصالح الغربية، على الظاهر، ولكن الصراع لم ينته بعد... ورغم أن المثقفين الغربيين كانوا قد ظنوا أن العالم قد انتهى إلى مصيره المحتوم بانتصار ما يسمونه الديمقراطية الغربية، إلا أنهم عادوا ليؤكدوا متراجعين عن مواقفهم السابقة، بأن الحضارات الشرقية، وخاصة الإسلامية، والكونفوشيوسية (الصينية) لها الكثير من عناصر القوة. ولا بد من خوض معركة مصير معها. وهكذا يعود الغرب لمقولة صراع الحضارات... والحقيقة أن هذه المقولة هي نقطة تحول في مفهوم الصراع الإنساني المعاصر، وهي عينها التي أطلقها وتحدث عنها الإمام الخميني "قده" في بداية القرن، الذي هو قرنه بلا منازع، والذي جاء ليكون مجدداً على رأسه...
وبعيداً عن مفهوم الصراع والحوار، واعتبار الحوار في بعده الآخر نوعاً من أنواع الصراع، أو اعتبار الصراع في بعده الآخر أيضاً صورة من صور الحوار... فإن الغرب شاء أم أبى وقع في الحتمية التاريخية التي بشَّر بها الإمام الخميني، دون أن يدرك أن عناصر الصراع بين الحضارات لا تقتصر على الأسلحة والتكنولوجيا وأجهزة التنصت، وقرارات المؤسسات الدولية التي يهيمن عليها هو، بل إنها تعتمد على وعي وإيمان وإرادة الإنسان، وهنا بيت القصيد.