الشيخ أكرم بركات
ذكرنا في الحلقة السابقة شروط مرجع التقليد التي كان ختامها الاجتهاد وبقي بحث ذو أهمية كبيرة يدور حول أعلمية مرجع التقليد نعرضه في هذه الحلقة
* معنى الأعلم
لا بد قبل الحديث عن كون الأعلمية شرطاً في التقليد من تحديد معنى الأعلمية بين المجتهدين ولتوضيح معناها نقدِّم مثالاً تقريبياً في علم تطبيقي هو الطب فمن هو الأعلم بين الأطباء؟ هل هو المحيط بالنظريات الطبية قديمها وحديثها أكثر من غيره؟ أو هو المطلع على تفاصيل الأمراض اطلاعاً يزيد على الآخرين؟ أو هو الأعرف بأسماء الأدوية؟ أو هو الأعلم بالنظريات الطبية وتفاصيل الأمراض والأعرف بتطبيق تلك النظريات على أفرادها في الخارج؟ لا شك أن الأعلم بين الأطباء هو الأخير. وكذلك الحال في الأعلم بين المجتهدين فهو بالإضافة إلى إحاطته بالقواعد المقرَّرة لا بد أن يكون أشدَّ مهارة من غيره في تطبيق هذه القواعد على ما يسمى بالصغريات بأن يتمتع بأحسن سليقة في هذا التطبيق. فقد يحيط العالم بالقواعد الأصولية بشكل كبير ولكن حينما يريد أن يطبقها على صغرى وردته في صلاة من كان عمله في السفر مثلاً فإنه قد لا يكون في هذا التطبيق ذا مهارة تفوق غيره فهذا رغم إحاطته بالقواعد ليس هو الأعلم بين الفقهاء. والخلاصة فالأعلم هو "الأعرف بالقواعد والأشد مهارة من غيره في تطبيقها على صغرياتها". هذا كله في معنى الأعلمية بحسب المعنى الاصطلاحي التقليدي وإن كان هناك بعض التطوير في طرح معنى هذا المصطلح نطرحه فيما بعد.
* الأعلمية ووظيفة المجتهد
إن السؤال عن الأعلمية هل هي شرط في مرجع التقليد يتوجه إلى نوعين من الناس فتارة يتوجه إلى المجتهد والجواب يحدِّده هو على حسب ما يستظهره من الأدلة الشرعية. مع العلم أن شرط الأعلمية في المرجع هو المعروف بين المجتهدين. بل عن ظاهر السيد المرتضى في كتاب الذريعة أنه من المسلَّمات عند الشيعة، وعن المحقق الثاني دعوى الاجماع عليه نعم نسب إلى بعض العلماء المتأخرين عن الشهيد الثاني عدم وجوب تقليد الأعلم(1).
* الأعلمية ووظيفة غير المجتهد
إذاً المجتهد يجيب عن السؤال حول وجوب تقليد الأعلم بحسب ما يستظهره من الأدلة، أما غير المجتهد فإن مسلكه في تحديد وجوب تقليد الأعلم يختلف. فإن غير المجتهد لا يصح منه أن يرجع إلى القرآن ليستنطق آياته، لأن لذلك أدوات علمية لا يمتلكها ليصل إلى النتيجة التي تبرىء ذمته وكمثال على ذلك، لا يصح من غير المجتهد أن يتمسك بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(2). ويبني على أنه لا يشترط تقليد الأعلم طالما أن الآية ليس فيها تحديد في ذلك، وذلك لأن هناك جملة من المقدِّمات لا بدَّ أن يكون لديه أجوبة عليها منها:
أ - ما المراد بأهل الذكر هل هم العلماء بشكل عام، أم علماء أهل الكتاب، أم هم خصوص أهل بيت العصمة عليهم السلام؟
ب - هل الآية واردة في خصوص المسائل العقائدية أم تشمل الفروع الفقهية؟
ج - على فرض أن المراد من أهل الذكر هم العلماء، فهل إن عدم تحديد مواصفات أهل الذكر يفيد الإطلاق أم لا؟
د - هل يوجد روايات معتبرة تتعلق بهذه الآية لتحدِّد وجهتها الصحيحة وقد تقيِّدها بقيود خاصة؟
إذاً لا يصح للإنسان العادي العامي غير المجتهد أن يعتمد على آيات القرآن الكريم ليحدد مسلكه في وجوب تقليد الأعلم أو عدمه. وكذلك لا يصح لغير المجتهد أن يرجع إلى الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام كأن يرجع إلى ما ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام "من كان من الفقهاء(3) صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلِّدوه" ليتمسك بإطلاقها وذلك لأنه لا يستطيع التعرُّف على مدى اعتبار هذه الرواية ليثق بصدورها من المعصوم عليه السلام إضافة إلى أن للاستفادة من دلالتها مقدمات علمية لم يطلع عليها ليصل إلى ما يبرىء ذمته من النتيجة. وأيضاً لا يصح لغير المجتهد أن يعتمد على رأي مرجع ليحدِّد على أساسه مسلكه في تقليد الأعلم، فلو كان المرجع يقول بعدم وجوب تقليد الأعلم فكيف يصح من غير المجتهد الاعتماد على رأيه طالما هو لم يحرز كونه الأعلم، فلعل الواقع هو وجوب تقليد الأعلم، وهذا يؤدي إلى عدم جواز تقليد من يقول بعدم وجوب تقليد الأعلم طالما هو ليس بأعلم.
* غير المجتهد والاتجاه الصحيح
وبناء على ما مضى، كيف يُحدِّد غير المجتهد تكليفه في مسألة وجوب تقليد المرجع الأعلم؟ والجواب: أن المكلَّف كما توجه لمعرفة وجوب التقليد بواسطة مرتكزاته العقلية، فإنه في تحديد وجوب تقليد الأعلم لا بد أن يرجع إلى مرتكزاته العقلية أيضاً، فإنها السبيل للوصول إلى النتيجة التي تبرىء ذمَّته أمام اللَّه من التكاليف التي وجهها إليه وحينها يعلم المكلَّف أن "عقله يستقل بلزوم الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى"(4)، وما ذلك إلا لأن غير المجتهد بعد أن تأكَّد من أنَّه مكلَّف بالقيام بتكاليف شرعها اللَّه تعالى في رسالته الخالدة فإنه يعلم أنه لا بد من السعي لابراء ذمته من هذه التكاليف وللاستفادة منها في مساره الكمالي الذي يريده اللَّه تعالى له. وقد توصل هذا المكلَّف (غير المجتهد) إلى أن الوسيلة الأيسر لبراءة ذمته هي التقليد، ولكنه الآن يواجه سؤالاً: هل يقلِّد الأعلم بين المجتهدين أو يقلِّد غير الأعلم منهم؟ وهنا يجد أمامه جواباً مبدئياً يقول له: لو قلَّدت الأعلم فأنت حينها تتيقَّن من براءة ذمتك، أما لو قلَّدت غيره فأنت قد تبقى في حالة عدم اليقين ببراءة الذمَّة، وذلك لأن تكليفك إما وجوب تقليد الأعلم على نحو التعيين والانحصار، وإما أنه يجوز لك تقليده وتقليد غيره على نحو التخيير وعقل الإنسان غير المجتهد بعد مواجهة هذا الجواب المبدئي يوجهه بالتأكيد نحو تقليد الأعلم. وإلى هذا أشار الولي المرجع الإمام الخامنئي دام ظله حينما سئل عن دليله في الوجوب الاحتياطي في تقليد الأعلم فقال (وأما الدليل عليه فهو... حكم العقل لدوران الأمر حينئذٍ بين التعيين والتخيير)(5). وفلسفة توجه عقل الإنسان في هذا المورد نحو تقليد الأعلم يكمن في خلفية تشكل أساساً في حركة الإنسان في هذه الحياة وعنوان هذه الخلفية هو التالي "إن ما يحرِّك الإنسان هو قوة المحتمل لا قوة الاحتمال".
ولتوضيح هذه القاعدة نطرح هذا المثال: لو أن رجلاً كان يسير على دراجة في الشارع فاحتمل بنسبة 70 بالمئة أثناء مسيره أن قطعة مالية متدنية القيمة ولنفترض أنها خمسون ليرة لبنانية قد وقعت منه فإننا نجد أن هذا الرجل لا يتوقف بل يتابع مسيره مع أن الاحتمال هو 70 بالمئة لكن المحتمل هو 50 ليرة لبنانية بينما لو أن هذا الرجل احتمل أثناء مسيره بنسبة 5 بالمئة وقوع مليون ليرة لبنانية منه فإننا نجده يتوقف بلا تردد مع أن احتمال الوقوع هو 5 بالمئة لكن المحتمل هو مليون ليرة.
وتفسير هذا أن المحرِّك للإنسان ليس قوة الاحتمال فاحتمال بنسبة 70 بالمئة لم يحرِّكه لكن احتمال 5 بالمئة حرَّكه، بل المحرِّك له هو قوة المحتمل فإن الذي حركه هو المليون بينما لم تحركه الخمسون ليرة. وعليه نفهم ما معنى كون المحرِّك للإنسان هو قوة المحتمل لا قوة الاحتمال. وفي مسألتنا المطروحة وهي: هل يجب تقليد الأعلم أم يجوز تقليد غيره فإن هذه الخلفية الفكرية الكامنة في الإنسان والتي تشكل أساساً في حركته تقول له: بغض النظر عن نسبة الاحتمال في وجوب تقليد الأعلم أو عدم وجوبه، لكنَّ أمامك محتملاً قوياً تواجهه ألا وهو نعيم الآخرة أو عذابها، فحينما تقلِّد الأعلم تُحرز النجاة، أما حينما تقلِّد غير الأعلم فاحتمال عدم براءة الذمة والمطالبة الإلهية وارد بغض النظر عن نسبته المئوية لذا فقوة المحتمل هذه تحرِّك الإنسان وتوجهه لتقليد الأعلم. وهناك أمر آخر يحرِّك غير المجتهد نحو تقليد الأعلم نرجىء الحديث عنه إلى الحلقة القادمة بإذن اللَّه تعالى .
(1) انظر: الغروي، التنقيح في شرح العروة الوثقى ج1 ص134.
(2) سورة النحل، الآية 43.
(3) الحر العاملي، وسائل الشيعة ج18 ص95.
(4) هذا التعبير وارد في تقريرات المرحوم السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره في التنقيح ج1 ص134.
(5) أجوبة الاستفتاءات طبعة دار الوسيلة 1416هـ 1995 ص6.