الشيخ مصطفى ملص(*)
العلم رحم بين أهله، مقولةٌ يرددها العلماء للدلالة على أن العلاقة التي يقيمها العلم بين حملته، هي في قوتها وآثارها يجب أن تكون كعلاقة ذوي الأرحام بعضهم ببعض، وهذا القول يضمر أو يستبطن معنى التواصل الدائم بين العلماء، وأن هذا التواصل واجب وحق في الوقت عينه، فكما أن ذوي الأرحام لا يقبل منهم التقاطع والتدابر، لأن قطعها يوجب القطيعة من اللَّه ووصلها موجب للصلة منه عزّ وجلّ كما بيَّن النبي المصطفى صلى اللَّه عليه وآله وسلم، كذلك فإن واجب العلماء التواصل برحم العلم الذي بينهم.
ونحن هنا بصدد علاقة تواصل نشأت بين مرجعين كبيرين من أكبر مراجع العالم الإسلامي في حينه هما سماحة آية اللَّه العظمى السيد محمد حسين البروجردي، المقيم حينها في مدينة قم في إيران، وسماحة شيخ الجامع الأزهر الامام الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم، رحمة اللَّه عليهما وعند الحديث عن العلاقة بين هذين الإمامين العظيمين، لا بد من ذكر رابط العلاقة بينهما سماحة السيد محمد تقي القمي، الأمين العام لدار التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي كان قد اتخذ من مصر دار إقامة وعمل مع عدد كبير من علمائها على تأسيس دار التقريب التي كان لها أثر طيب على تطور العلاقة بين مذاهب أهل السنّة والجماعة وبين مذهبي الشيعة، المذهب الإمامي، والمذهب الزيدي فقد كان السيد محمد تقي القمي، أكثر الناشطين في حينها في مجال التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان المنسق للعلاقة بين معاصريه من أئمة المذاهب الإسلامية، فرحمة اللَّه عليه.
نقل السيد القمي رسالة شفهية من السيد آقا حسين البروجردي إلى إمام الجامع الأزهر الإمام الأكبر عبد المجيد سليم، فرد عليها إمام الأزهر برسالة خطية فهمنا من خلال هذه الرسالة الجوابية ما قاله السيد البروجردي في رسالته الشفهية. لقد تضمنت رسالة السيد البروجردي إعجاب سماحته بما يؤديه الشيخ عبد المجيد سليم من جهود في خدمة الإسلام والمسلمين ومن جهود جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية وما لها من أثر في جمع كلمة المسلمين، وما تستطيع أن تفعله وترشد إليه، مما يصلح الفساد الذي دسه ذوو الأغراض(1) هذا هو مضمون كلام السيد البروجردي كما فهم من جواب الشيخ عبد المجيد سليم. وإذا أمعنا النظر في هذا الكلام نجد أن سماحته قد أظهر أدباً جماً كما ينبغي أن يكون بين العلماء فأثنى على جهود الشيخ في خدمة الإسلام والمسلمين وفي هذا تأكيد على أنه ينظر لهذه الأمة على أنها أمة واحدة، وجهود المخلصين من علمائها تصيب بالخير جميع أبنائها، هذا أولاً وهو في هذا يتكلم بصدق ينسجم مع ذاته ومع منهجه العلمي الذي عرف به وهو احترام المذاهب الإسلامية الأخرى والتعاطي معها بإيجابية كاملة فقد كان من منهجه رضوان اللَّه عليه النظر في روايات أهل السنّة، وكان يعتقد أنه يمكن فهم روايات الأئمة عليهم السلام وأقوالهم بشكل أفضل من خلال مراجعة الروايات والفتاوى الشائعة لأهل السنّة في عصر أئمة أهل البيت عليهم السلام، وكان يقول أحياناً "فقه الشيعة على هامش فقه أهل السنّة" لأن الفتاوى المستعملة آنذاك هي فتاواهم، وكان أصحاب الأئمة يسألون أئمتهم بناءً على تلك الفتاوى، وكان الأئمة يجيبون في ضوئها أيضاً(2) وكان يرى أن الرجوع إلى فتاوى أهل السنّة من مقدمات الفقه، وكان يقول: "إن قدماءنا كانوا يحفظون مسائل الخلاف".
ومن هذا المنطلق قام لأول مرة بطبع كتاب الخلاف للشيخ الطوسي مع هوامش مختصرة. وكان يمرن طلابه على الرجوع إلى كتب قدماء الشيعة وكذلك فتاوى أهل السنّة، وكان يقول: "نقل قدماؤنا فتاوى أهل السنّة في كتبهم ودروسهم، وكانوا ينقدونها في أغلب الأوقات"(3). وكان في درسه يطرح نقاط الاتفاق والاختلاف بين المسلمين، فيذكر رأي أهل السنّة ودليلهم وكذلك رأي أهل البيت، وانعكاس ذلك الاختلاف في الفقه(4). وانسجاماً مع هذه الرؤية الوحدوية كان ثناؤه على جماعة التقريب والجهود التي تبذلها في سبيل التقريب بين المذاهب، وكان يرى لها إمكانية التوفيق في جمع كلمة المسلمين، وهذا يدل على أن رؤيته لصلاح هذه الأمة لا تتحقق إلا إذا زالت عوامل التفرقة والاختلاف.
وبيّن سماحة السيد البروجردي رأيه في أسباب الفرقة والاختلاف عندما تحدث عن الفساد الذي دسه ذوو الأغراض، فهو بهذا يرى أن أصحاب الغايات من أجل الوصول إلى غاياتهم المشبوهة قد دسّوا الدسائس ونشروا الأكاذيب والإشاعات التي كان من آثارها هذا الابتعاد وهذه الجفوة التي تسيطر على العلاقات بين معظم أبناء المذاهب المختلفة. وهو يرى أن الواجب هو العمل على إزالة هذا الفساد، بتوضيح الحقائق والتركيز على الجوامع المشتركة. وما أبداه السيد البروجردي في رسالته، صادف عند الشيخ عبد المجيد سليم القبول والرضى لذلك نراه يقول في رده الخطي(5) "واللَّه يعلم أن هذه هي أعز آمالي التي أعمل لها جاهداً طول حياتي وأسأل اللَّه تعالى أن يحققها وأن يؤيد كل ساع في سبيلها"، والشيخ عبد المجيد سليم أيضاً لا يجامل وإنما يتكلم بما ينسجم مع جهده العملي وقناعاته الوحدوية فهو عمل مع السيد محمد تقي القمي على تأسيس جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، وساهم في الكتابة في المجلة التي أصدرتها جماعة التقريب وهي مجلة "رسالة الإسلام" بمقالات تحمل فكرة التقريب، وكان ينافح بمناقشاته ومحاضراته عن فكرة التقريب وكان يعتبر أن الاختلاف في الرأي من الأمور الطبيعية، لأن العقول تتفاوت والمصالح تختلف، والروايات تتعارض ولا يعقل في مثل هذا النوع أن يخلو مجتمع من الاختلاف، ويكون جميع أفراده على رأي واحد في جميع شؤونه، وهذا النوع من الاختلاف غير مذموم في الإسلام، ما دام المختلفون مخلصين في بحثهم، باذلين وسعهم في تعريف الحق واستبانته، بل إنه ليترتب عليه كثير من المصالح، وتتسع به دائرة الفكر، ويندفع به كثير من الحرج والعسر، وليس من شأنه أن يفضي، ولا ينبغي أن يفضي بالمسلمين إلى التنازع والتفرق، ويدفع بهم إلى التقاطع والتنابز(6).
ويروي الشيخ القمي أن الشيخ عبد المجيد سليم كان ينوي إصدار فتوى بجواز التعبد وفقاً لمذهب الشيعة الإمامية قبل الشيخ محمود شلتوت بعشر سنوات، وقد هيّأ الأجواء فعلاً لإصدار الفتوى، ولكن قوىً خفية عملت على افشالها عبر ارسال كتب منسوبة إلى بعض علماء الشيعة فيها ما فيها من أسباب الفرقة والتشاحن، والراجح أن بعض الأجهزة المخابراتية الأجنبية التي كانت تتابع نشاط جماعة التقريب هي التي تولت افساد الأمر(7). وبسبب ذلك تأخر صدور الفتوى إلى أن صدرت بعد عشر سنوات على لسان الشيخ محمود شلتوت وبالعودة إلى مضمون الرسالة الجوابية للشيخ عبد المجيد سليم نجده يتحدث عن أمانة العلم وأنها مكانة عظيمة ومسؤولية ضخمة استناداً لقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾(8) وأن على العلماء واجباً عليهم أن يتعاونوا على أدائه وأن يتبادلوا الرأي والمشورة في شأنه على بعد البلاد واختلاف الشعوب. وفي هذا الكلام اقتراح لو سعى المسلمون لتنفيذه عبر ايجاد المجامع الفقهية المشتركة لقطعوا ثلاثة أرباع الطريق نحو الوحدة والتقريب، ولساد التعاون البناء بما فيه صالح المؤمنين ورفعتهم.
ثم يضيف الشيخ سليم متحدثاً عن مسألة كان قد ذكرها السيد البروجردي في رسالته وهي مسألة الدسائس التي كانت الأمة هدفاً لها في حين من الدهر، وهو يرى أن هذه الدسائس هدفت إلى زلزلة المسلمين عن الحق، وتفريقهم بالخلاف والجدال تفريقاً يقضي عليهم جميعاً. وفي هذه النظرة نجد أن المرجعين العظيمين قد اتفقا اتفاقاً تاماً، على أن هدف الدسائس ليس إصابة فئة معينة بالأذى والضرر، وإنما هو القضاء على الأمة بكل مذاهبها وطوائفها. وهذه الدسائس التي شغلت المسلمين عن الدعوة إلى اللَّه والجهاد في سبيله ما زالت آثارها تغشى العقول، وتشغل القلوب، وتحول بين كثير من الناس وما ينبغي أن يكونوا عليه من فهم صحيح للدين، وإدراك لأسراره، وتفان في سبيل إعلاء كلمته(9). إن تلمس الشيخ سليم لهذه المشكلة والإشارة إليها، يدل على عمق وعيه وإدراكه لما تحمله من مخاطر، وأنه يتحسس عظم المسؤولية الملقاة على عاتق العلماء في سبيل إصلاح هذا الخلل الذي عطل دور المسلمين الأساسي في الحياة وهو دور الدعوة والجهاد في سبيل إعلاء كلمة اللَّه. لذلك نراه يتوجه إلى السيد البروجردي بالقول: "فأول واجب علينا معشر العلماء لا فرق بين سنيين منا وشيعيين أن ننفي من أذهان الناس ما علق بها من ذلك وأن ننشر صفحات الإسلام الناصعة، ومبادئه القويمة، وشريعته السمحة نشراً يبصر الناس بما فيها من هدى ورشاد، ويأخذ بما لها من قوة وجمال ويجعلهم يدينون بها عن فهم وحب"(10).
إنها رؤية صحيحة، وفهم جيد لدور العلماء من مختلف المذاهب لإجلاء الحقيقة وتبديد الدسائس وما تركته من آثار أدت إلى اضعاف المسلمين، سبق بها هذان الإمامان عصرهما، ولو أن الأمة أدركت ما تضمنته هاتان الرسالتان من مفاهيم وتخطيط، ووجد من يقوم بالتنفيذ، لما كان حال الأمة على ما هي عليه اليوم من ضعف ومعاناة.
غير أننا نستطيع التأكيد أن جهود هذين العالمين وسواهما ممن مهدوا الطريق من جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية لم تذهب أدراج الرياح، وإنما كانت تأسيساً لما نراه اليوم من جهود ترمي إلى توحيد هذه الأمة على الأسس التي تلتقي عليها من كتاب اللَّه وسُنّة نبيه محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم التي رواها عنه أهل بيته وصحابته. إنه لا يمكن إغفال آثار تلك المقدمات على الزمن الحاضر، فما حملته الثورة الإسلامية ونهج الإمام الخميني الوحدوي، وما انبثق عن ذلك النهج مثل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران، وأسبوع الوحدة الإسلامية السنوي، ومؤتمر الوحدة الإسلامية الذي يعقد سنوياً في طهران وجامعة المذاهب الإسلامية في إيران، وتجمع العلماء المسلمين في لبنان، وفتاوى شيوخ الأزهر وأئمته حول صحة التعبد بالمذهب الجعفري، والعديد من الأنشطة العالمية إنما هو استمرار لتلك الرؤية التي حملتها رسالتا الإمامين الجليلين، بقي أن نشير أن هاتين الرسالتين قد جاء بعدهما رسائل أخرى تسير على نفس المنوال.
(*)عضو مجلس الأمناء في تجمع العلماء المسلمين
(1) راجع كتاب ملف التقريب تأليف الدكتور محمد علي آذرشب صادر عن مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران، صفحة 159.
(2) مجلة رسالة التقريب مقال لسماحة آية اللَّه محمد واعظ زادة الخراساني، بعنوان المنهج الفقهي والأصولي للسيد البروجردي العدد 30 صفحة 128.
(3) المصدر السابق: العدد 30 صفحة 149.
(4) المصدر السابق: العدد 30 صفحة 130.
(5) كتاب ملف التقريب - صفحة 159.
(6) المصدر السابق - صفحة 14 - بيان للمسلمين العدد الأول من مجلة رسالة الإسلام السنة الأولى - مقال للشيخ عبد المجيد سليم.
(7) راجع المصدر السابق - صفحة 130.
(8) القرآن الكريم - سورة آل عمران، آية: 18.
(9) ملف التقريب، صفحة 160.
(10) المصدر السابق، صفحة 160.