السيد بلال وهبي
أراد الله تعالى للنفس الإنسانية أن تكون ميداناً تتصارع فيه قوى مختلفة حيث يتقابل الهوى والجهل مع العقل والعلم، يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العقل والشهوة ضدان ومؤيد العقل العلم، ومزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما فأيهما قهر كانت بجانبه"، وإنما اقتضت إرادة الله تعالى ذلك لأنها أرادت للإنسان أن يكون حراً طليقاً له أن يقرر ما يريد، وأن يفعل ما يشاء، والحرية والاختيار لا يصحان إلا إذا توفرت للإنسان خيارات متعددة، فأما لو لم يكن أمام الإنسان إلا خيار واحد جبري فسينتفي موضوع الاختيار رأساً ويتحول الإنسان من مختار إلى مجبر، وهذه الحرية التي منحت للإنسان ومنعت عن غيره هي التي تقف وراء إبداع الإنسان وهذا الإبداع هو الذي يمنحه التطور والتجدد، وهذا بدوره مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدور الاستخلاف الذي أريد للإنسان أن يقوم به في الأرض.
والنفس أكثر أهمية من الجسد المادي الذي هو عبارة عن لبوس تلبسه النفس وما تلبث إلا وتخلعه حين الموت، وكل ما يظهر على الجسد من أعراض وأمراض إنما هو أثر للنفس ليس إلا، فهي التي تحرك الجسد وتستفيد منه للوصول إلى أهدافها ووفياتها والجسد ليس إلا مطية لها، ولهذا لم يكن العيب الجسدي عائقاً أمام عطاء الإنسان وفعاليته، ولم يتحول صاحب الإعاقة الجسدية إلى شرير أو إنسان رذيل، كما لم يكن صاحب المنظر القبيح قبيحاً في فعله ومحتواه، فكم من جميل الشكل أنيق المظهر يمثل خطراً جارفاً على الإنسانية كلها، وكم من قبيح المنظر أعطى للحياة الكثير من الغني، فهذا لقمان الحكيم الذي أفاض الله عليه الحكمة، وجعله نموذجاً يقتدي كان عبداً أسود غير جميل المنظر كما تقول النصوص، ولكنه كان ذا نفس زاكية وقلب نقي تتفجر الحكمة منه، فغدا نموذجاً للصالحين على مدى الأيام، يؤيد هذا قول رسول الله محمد صلى الله عليه وآله لأبي ذر رضوان الله عليه: "يا أبا ذر إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم..."(1) فالصور والأموال ما هي إلا مظاهر قد لا تعبر عن الحقيقة أبداً، وكثيراً ما تكون مظاهر خادعة، ومن هنا تركزت عناية الإسلام على النفس بشكل كبير وأولاها أهمية قصوى وعمل على تزكيتها وتنقيتها من كل شائبة معيبة وخلق رذيل، فهي التي تربط الإنسان بالملأ الأعلى، وليس في مقدوره الوصول إليه إلا بتزكيته لنفسه وتأديبها، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ".... وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها"(2).
ولا يفوتني أن أشير هنا إلى أمر هام جداً وهو أن دعوة الإسلام لتزكية النفوس ليست دعوة إلى مثاليات وأخلاقيات مجردة تبقى في عالم المثل، ولا إلى ممارسات محددة بنمط معين من العيش أو أشكال من المأكل والملبس والحديث والمشي وغير ذلك، فهذه أشكال قد لا تخبر عن الحقيقة الكامنة في النفس، وهي أشكال قد يلجأ إليها بعض من لم يدركوا المراد من أن تكون أنفسهم مهذبة زاكية. ولا يقف الإسلام في دعوته إلى تزكية النفوس على حالات فردية تظهر على هذا أو ذاك بعض علائمها في السير والسلوك وغيره، وإنما هي دعوة لكل بني البشر، بل إن الدين في الأساس إنما هدف ويهدف إلى تزكية النفوس، والأنبياء من لدن آدم إلى سيدهم وخاتمهم رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم إنما سعوا هذا المسعى المقدس، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وآله أعلن أن الهدف من بعثته الشريفة هو هذا الأمر إذ قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فغاية البعثة هي التزكية، وغاية كلا الأحكام الربانية هي التزكية، لأن الأحكام الشرعية مهمتها أن تحرم الخبائث والفواحش، وتحلل الطيب وتوجب الفعل الحسن، فعن علي أمير المؤمنين عليه السلام: "الشريعة رياضة النفس"(3).
التزكية يجب أن تكون شاملة، ولا يجوز أن تنحصر في أفراد دون آخرين إلا إذا كانت تزكية هؤلاء مقدمة لتزكية نفوس الآخرين ومن هنا وجب على كل مؤمن بل وكل مسلم بمجرد انتمائه إلى الدين أن يصون نفسه عن كل رذيلة ويزكيها بكل فضيلة. والسر في هذا الاهتمام المنصب على تزكية النفوس هو أن عمار البلاد وخرابها، وقيام المجتمعات على أسس التكافل والتضامن والتعاون والمحبة والتراحم إنما هو رهن بطهارة النفوس وخبثها، إن مجتمعاً يتشكل من أناس متدينين يعملون ضمن حدود الله فلا يتعدوها، ويسيرون وفق المنهج الرباني فلا يحيدون عنه، إن مجتمعاً هكذا حال أفراده لن يكون إلا سعيداً رغيد العيش، وإن مجتمعنا اليوم أحوج ما يكون إلى العودة إلى الله وتزكية النفس من جديد وصياغتها على أساس المثل الربانية العليا التي شقينا حينما ابتعدنا عنها، حيث بتنا لا نسمع إلا كذباً ولا نرى إلا حراماً، ولا نتكلم إلا بمعصية، ولا نأكل إلا ما نهى الله عنه، ولا يطيب لنا السمر إلا أن نغتاب وننم ونفشي الفاحشة.
فالتزكية إذاً يجب أن تكون شاملة، ولا يجوز أن تنحصر في أفراد دون آخرين إلا إذا كانت تزكية هؤلاء مقدمة لتزكية نفوس الآخرين، وتزكية المجتمع مسؤولية كل قادر، ويجب أن يضطلع بها كل من توفرت فيه أهلية لهذا الأمر الهام جداً، لأن سعادة المجتمع ورقيه ودعته مرهون بذلك. وتسأل: من أين نبدأ في تزكية النفوس وما هي المقدمات الأولية لذلك؟. وأجيب: إننا ما دمنا نخاطب الإنسان، هذا الإنسان الذي تتصارع فيه قوى متضادة من الخير والشر، من الشهوات والغرائز والعقل، هذا الإنسان الذي يخطئ هنا ويصيب هناك، يستجيب تارة ويرفض أخرى، يطيع ويعصي، يخلط الصالح من عمله بالطالح منه، وعليه فحتى يكون هذا الإنسان قادراً على التزكية لنفسه والارتقاء بها إلى مدارج الطهر والقداسة لا بد له من:
1- الندم على كل تقصير في جنب الله تعالى، والتوبة فعلاً وعملاً، والعودة إلى الله تعالى عود الصادق المجد في الإنابة، والتوبة الخالصة قادرة على أن تنظف القلب وتغسله من الذنوب. فالتوبة إذاً مرتكز أساسي من مرتكزات التزكية، لأن القلب إذا لم يكن نقياً خالصاً من الذنب لن يكون قادراً على الإشعاع والضياء، وإذا فقد القلب هذه القدرة لن يقدر الإنسان على التسامي في مدارج التزكية والتكامل المعنوي، فنفس موبوءة بالذنب لا يمكنها أن ترتقي بصاحبها إلى مدارج الكمال، أني ذلك والذنب قد ران على القلب فأغلق كل منافذه. طلب العلم والاستزادة من المعرفة، وكثرة التفكر والتدبر من الوسائل الأساسية لتزكية النفس ويكفي أن تجبَّ التوبة ما قبلها وأن تكون عامل استنزال الرحمة الإلهية، ولولا رحمة الله ما زكا أحد من العالمين، ويكفيها أنها تنيل العبد محبة الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وهذه المحبة أساس في التوفيق لإصلاح النفس وتزكيتها. ومعلوم أن التوبة هذه لا تتم إلا بالخروج من عهدة حقوق الناس فإن كانت مادية أداها إليهم، وإن كانت معنوية استسمح من أهلها أو استغفر لهم، وهذا شرط رئيسي لتمام المرتكز الأول من مقدمات تزكية النفس، فعن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله شيخ من النخع: إني لم أزال والياً منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا فهل لي من توبة؟ قال الراوي: فسكت الإمام ولم يجب، فأعاد السائل عليه سؤاله فقال عليه السلام: "لا حتى تؤدي إلى كل ذي حق حقه"(4). التوبة مرتكز أساسي من مرتكزات التزكية، لأن القلب إذا لم يكن نقياً خالصاً من الذنب لن يكون قادراً على الإشعاع والضياء
ثم ينبغي له أن يؤدي حقوق الله تعالى كاملة غير ناقصة، ويكون ذلك بانقياده إلى دين الله من دون شك ولا ريبة، مقرناً كل طاعة بالنية الخالصة والقصد السوي. تلك هي المقدمة الأولى التي توفر الأرضية اللازمة لتطهير النفس وتزكيتها، لكنها لا تفي بالغرض لوحدها من دون اقترانها بمقدمات أخرى أذكرها على سبيل الإيجاز وهي:
2- معرفة نفسه، والوقوف على مساوئها، والإقرار بوجود العيوب الكثيرة فيها، فإن الإقرار بذلك مقدمة للإصلاح، وأما التنكر للعيب وعدم الاعتراف بوجوده فهذا يعني تضخمه واستمراره حتى يصل إلى مرحلة يصعب على المرء أن يصف له الدواء.
3- الامتناع عن إعطاء النفس كل ما تطلبه، بل ورد في النصوص الشريفة أن على من أراد إصلاح نفسه أن يخالف هواها فكل ما تطلبه منه يعطيها ضده، فإن طلبت الراحة والخلود للنوم أسهرها في طلب العبادة، وإن أرادت الامتلاء من الطعام والشراب جوعها وهكذا، ففي الحديث الشريف "أن رشد النفس في مخالفتها".
4- طلب العلم والاستزادة من المعرفة، وكثرة التفكر والتدبر من الوسائل الأساسية لتزكية النفس، لأن العالم لا تهجم عليه اللوابس ولا يؤخذ على حين غرة.
5- أن يعوِّد نفسه على خصال الخير، وعلى المواظبة على بعض الأعمال العبادية حتى إذا ما اعتاد عليها صعب عليه تركها، وإذا وصل إلى هذه المرحلة كان جديراً بمتابعة المسير.
هذه بعض الأفكار أثرناها هنا على صفحات هذه المجلة الغراء آملين أن نوفق للحديث عنها بتوسع أكثر، حامدين الله تعالى ومصلين على سيد رسله محمد وعلى آله الطاهرين.