د. بلال نعيم
الصلاة تلك العبادة الفريضة الواجبة اليومية التي تعتبر أساس العبادات ورأس الطاعات وعمرو الدين ومعراج المؤمنين وسلاح المتقين وقربة العارفين وأنس المريدين والتي أوجبها الله على عباده البالغين من الذكور والإناث، الكبار والهرمين، والتي يجب القيام بها على كل حال وفي كل الأحوال مهما كانت الظروف وأنى كان الأداء، ففي الحرب هناك صلاة كما إن الحرب للصلاة، وفي حال الاطمئنان هناك صلاة وفي المرض هناك صلاة كما أن الصلاة شفاء وفي الصحة صلاة وفي السفر صلاة كما في الحضر، فهي عبادة غير مشروطة بشرط إلا شرط الحياة وليست مرتبطة بوضع أو حال فهي مطلوبة على الدوام ويجب المحافظة عليها كما شرعت على لسان رسول الله الأكرم صلوات الله عليه وعلى أهل بيته.
* الصلاة عبادة تامة:
صحيح أن الصلاة عبادة في الظاهر يمارسها الإنسان المؤمن بجوارحه، ويشترط فيها جملة مسائل في الطهارة الظاهرية واللباس الظاهري والقبلة الظاهرية إلا أنها صلاة تامة، يؤديها الإنسان المؤمن بجوارحه وجوانحه، في ظاهره وفي باطنه، وتسري آثارها على السر والعلن، فهي تؤثر في نورانية الوجه ونضارته كما تؤثر في صفاء القلب وجلائه، لذا كانت من شروط التمامية للصلاة مسألة حضور القلب في الصلاة الذي يجب أن يتوجب إلى قبلة الإنسان الحقيقية إلى ربه، يراقبه ويستحضر وجوده ويحس به، ويشعر بوجوده تحت رقابته، ويقف على قدمي الخوف والرجاء، ويكبّر تكبير الصادف عن الدنيا ويقرأ قراءة المستأنس بذكر الله ويركع ركوع الخاضع لله المادّ عنقه تعبيراً عن الذلة أمامه، ويسجد سجود الفاني في الله، الماحي وجوده في ذلك الوجود الاتم الأقدس، ثم يكرر ذلك بحسب طبيعة الصلاة التي يؤديها إلى أن يتشهد بالوحدانية لله وبالواسطية لنبيه وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام ويسلّم على أولياء الله الصالحين وعلى عباده المقربين ويسلّم على نفسه بعد أن سلمت أو كادت من الشوائب بفعل الصلاة، وبعد ذلك يسلّم على جميع الساكنين في الوجود سلاماً من الله إلى جميع عباده رسالة الإسلام التامة رحمة للعالمين.
* الصلاة وملكات الإنسان:
كما تبين في المقطع السابق أن الشغل بالصلاة هو اشتغال لجميع ملكات الإنسان: جسده من خلال حركات القيام والركوع والسجود، والنفس في استحضار مكنوناتها في السلب والإيجاب، فتؤثر في الصلاة تبعاً لذلك والقلب في حضوره وتوجهه والتفاته وعدم انشغاله بسوى الله، والعقل في طرد الوساوس والخيالات والأوهام وفي حصر التوجه إلى الباري عز وجل والروح في تحررها وإطلاقها نحو بارئها في رحلة معراجية شيّقة، فقد كان الرسول الأكرم صلوات الله عليه يتلذذ بسماع الأذان الذي يعلن اقتراب موعدها وحلول زمانها، كما كانت شعاراً للصالحين الذين يجدون فيها حلاوة القربى ولذة اللقاء مع المعشوق الأوحد عز شأنه.
* الصلاة وأثرها في تهذيب النفس:
إن الصلاة بصفتها عبادة جامعة تامة، يعمل في أدائها الإنسان المؤمن بجميع شراشر وجوده، فلا بد أن لها انعكاساً وتأثيراً على هذه الشراشر كاملة، ومن جملة ذلك تأثيرها على نفس الإنسان المؤمن وسوف أحاول أن أبيّن بحسب استطاعتي آلية هذا التأثير التي تبدو صعبة المنال بلحاظ المسافة الاعتبارية الفاصلة بين ما يقوم به الإنسان في صلاته من ذكر وأوراد وحركات وبين الحركة المثالية للنفس باعتبارها الجوهر البرزخي ففي الإنسان الذي يلامس الجسم من جهة والروح من جهة ثانية، حيث يمكن القول:
1- إن بناء النفس وقيامها يتم بالتربية والتزكية من خلال تخليصها من الشوائب والعيوب والآفات وذمائم الأخلاق، وبما أن الصلاة هي قرب من الله واتصال به عز وجل فأنها بذلك تكون اتصالاً بمحل الخلق الأسمى والمثل الأعلى، وكلما أدّى المؤمن صلاته بشكل أمثل كلما كان أدنى في الاقتراب من محل النقاوة والطهارة والقدس وبالتالي كلما كان تأثره الخُلُقي أكبر.
2- إن الصلاة التي يقيمها المؤمن هي صورة تختصر مقامه الإجمالي في سلوكه إلى الله من خلال مجموع أعماله في هذه الدنيا، وهذه الصلاة تعكس مقام هذا الإنسان ومستوى علاقته بالله تعالى، وهذه العلاقة ترتبط بشكل رئيسي بنفس الإنسان وبأخلاقه وبمزاياه، فكلما كانت أخلاقه حسنة كلما أدى صلاته بشكل أفضل من حيث الخشوع والتوجه والعكس صحيح أيضاً حيث كلما صلّى بشكل أفضل بالتزام الشرائط الظاهرية والباطنية كلما انعكس ذلك على خلقه ونفسيته، من هنا كانت الآية القرآنية ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر﴾.
3- إن الصلاة بحسب مضامينها تحوي كلمات إلهية رقيقة تعبّر عن الرحمة الإلهية الشاملة لجميع العباد على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم وسلوكياتهم وهذه الكلمات تفيض على نفس المؤمن الرحمة واللين والحلم وجملة فضائل أخلاقية تنعكس في أدائه وسلوكه مع الناس، لذلك نجد أن الإنسان المؤمن إذا كان غاضباً وصلّى فان الصلاة تهدئ روعه وتطفئ حرارة غضبه من خلال كلمات الباري عز وجل، ولذا نجد أيضاً أن المؤمن عندما يصلي ويلتفت عن صلاته فأنه يبادر إلى المصافحة لمن هم حوله وإلى الابتسام في وجوههم وإلى الدنو منهم. فكل ذلك هو انعكاس لتلك الكلمات الرحمانية التي تتضمنها الصلاة.
4- إن الصلاة التي هي شعار المؤمنين والصالحين لا تتناسب في أدائها والالتزام بها مع الفحشاء والمنكر من حيث الماهية والطبيعة، فالإنسان المؤمن عندما يؤدي الصلوات الخمس بين الصباح والعشاء فأنه سوف يشعر بالتناقض في الشخصية عندما يرتكب منكراً وفاحشة وسوف يحس بأنه يكذب على نفسه، لأجل ذلك يبادر بشكل تلقائي إلى التوبة خصوصاً في أوقات الصلاة التي تذكّره بربه وخالقه وتذكّره بآخرته وبأنه سوف يقف بين يدي الله عز وجل ويحاسبه كما هو الآن في الصلاة يقف بين يديه سبحانه، لذا تتحول الصلاة إلى وقفة محاسبة وتوبة في آن معاً، وطالما أن الإنسان المؤمن يؤدي صلاة كل فترة من الزمن، فإن هذه الصلاة سوف تؤثر في نفسه من حين أدائها إلى وقت الصلاة اللاحقة حتى يصل الإنسان المؤمن إلى حالة من الاستدامة على التأثر بأخلاق الصلاة فلا يرتكب أي منكر بين الصلاتين، إلى أن يصل في نهاية المطاف إلى المقام الذي يعبّر عنه القرآن الكريم ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُون﴾.
وهكذا فإن الصلاة عبادة جامعة، يقيمها الإنسان المؤمن بجوارحه وجوانحه فتؤثر فيه بكل شراشره، وفي مقدمة ذلك تأثيرها على نفسه من جهة التوبة ونبذ الرذائل والعزم على الفضيلة والصفاء والرحمة وسوى ذلك من تأثيرات تربوية راقية للصلاة في نفس الإنسان المؤمن.