مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

المواكب الحسينية

الشيخ حسن بدوي‏


منذ استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أصيب الشيعة بجرح عاصف لم يندمل، فحق لهم التعبير عن تألمهم، ولو أنهم وجدوا الحرية الكاملة في عهود الأئمة المعصومين عليهم السلام، لأقاموا هذه الشعائر القائمة اليوم أكثر، ولكن أنّى لهم ذلك وسيوف حكام الجور مشرعة في وجوههم، وبالرغم من هذا كله تمردوا على المحن وأبوا إلا انتزاع حرياتهم رغماً عن الزمن، بالقوة تارة، وبالتضحيات أخرى.

والمواكب الحسينية واحدة من مفردات هذه الشعائر الحسينية التي تأخر خروجها عن مقتل الإمام الحسين عليه السلام، حتى سجل التاريخ صفحات ناجعة لأمراء البويهيين حيث أنهم احتضنوا هذه الشعائر فأخرجوا المآتم من الدور والبيوت إلى الأسواق والشوارع حتى حولوها مواكب مشهودة ومهرجانات مفجعة في مهدها الأول العراق وإيران حيث مركز حكومتهم وسلطانهم الذي ابتدأ سنة 334ه وانتهى 467 في أواسط الحكم العباسي بالرغم من معارضات ومخالفات معظم الخلفاء العباسيين لهم على هذه المواكب ولم يأبه البويهيون لهذه المعارضات لأن الحكم الحقيقي والسلطة الفعلية سقطت من أيدي الخلفاء العباسيين ولم يبق لهم غير الاسم المجرد، إذ صارت بأيدي البويهيين وقد نص أكثر من مؤرخ، أنه في سنة 352ه أمر معز الدولة أحمد بن بويه في العشر الأوجل من المحرم ببغداد بإغلاق جميع أسواق بغداد، وإبطال البيع والشراء، وأن يلبس الناس السواد، وأن يقيموا مراسم العزاء وأن يظهروا النياحة وأن يخرج الرجال والنساء لاطمين الصدور والوجود(1) وكان معز الدولة البويهي يرتدي رداء الحداد والحزن، ويتقدم عسكره المشترك في هذه المواكب(2) وقد جعل يوم عاشوراء عطلة رسمية في الدوائر الحكومية(3)، إلى أن تطورت تلك المواكب والمآتم بتطور ساسة الحكومات التي كانت تتولى السلطة إن في إيران أو العراق.

ففي إيران استولى على الحكم الملوك الصفويون الذين استطاعوا أن ينشئوا فيها حكومة مركزية لسلطتهم، وقد اهتم ملوك هذه الدولة الشيعية اهتماماً بالغاً بالعزاء الحسيني خصوصاً المواكب العزائية في الساحات العامة كما أن الحكومات التي خلفت الدولة الصفوية في إيران كالأفشارية، والزندية التي سارت على نفس نهج تلكم الدولة في المحافظة على هذه المواكب وخاصة على عهد الملوك القاجاريين، وهكذا استمرت إلى يومنا هذا بأبهى حلّة، أما في العراق فإن المواكب فيها استمرت من عهد البويهيين وكانت تخبو شعلتها تارة وتتقد أخرى بحسب الحكومات المتعاقبة في العراق إلا أن أكثر ما يطبع هذه المواكب أنها ما توقفت قط، خصوصاً في أيام عاشوراء، والأربعين الحسيني من كل عام ففي كربلاء التي تزورها المواكب، في هذه المناسبة من المدن العرقاية من الشمال إلى الجنوب والتي تكون قبلتهم، يجتمع فيها خلق كثير حتى لكأنه يوم المحشر. فتسير المواكب لها جليلة مهابة يتراوح عدد من يسيرون في كل موكب ما بين 500 إلى 1000 نسمة حاسر الرؤوس، وحافيي الأقدام، متجلببين بالسواد، يبكون ويلطمون الصدور، والرايات خفاقة أمام كل موكب.

ومن أهم المواكب العزائية ومنذ أكثر من ثلاثة قرون مواكب سكان قرية طويريج الواقعة على بعد عشرة أميال شرقي مدينة كربلاء على شاطئ‏ نهر الفرات والتي تعرف بالهندية هذه المواكب التي تؤم كربلاء في اليوم الثاني عشر من المحرم كل عام، إذ منذ الصباح الباكر يحتشد الناس في موكب ساير عملاق وتنضم بقية العشائر وسكان الدساكر على جوانب الطريق حتى يصبح عددها مئة ألف نسمة رجالاً ونساءً شيوخاً وشباناً وأطفالاً، وهم ما بين مُعوّل وصارخ ولاطم، وكان بعض أكابر الطائفة الإمامية يشارك في هذه المواكب كأمثال العلامة السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212ه، فقد كان يتقدم أمام هذه المواكب، ولما سئل عن سبب اشتراكه في هذا العزاء أجاب أنه رأى في المنام الإمام الثاني عشر صاحب الزمان عجل الله فرجه مشتركاً في هذا العزاء، ناهيك عن كبار الشعراء الذين كانوا يشتركون به أمثال الكعبي وعظماء المجتهدين والفقهاء الشيعة كالشيخ زين العابدين المازندراني(4) وغيره. أما لبنان اليوم ففي حدود علمنا وإن لم يكن مسبوقاً بظاهرة المواكب تاريخياً كما هي في العراق وإيران إلا أن المواكب العزائية التي تخرج اليوم في لبنان من جميع المناطق الشيعية فيه كالنبطية - وبعلبك وبيروت وغيرها لهي تلبية صادقة لنداءات الحسين عليه السلام: "هل من ناصر ينصرني".

أما الضاحية الجنوبية فحدث ولا حرج فيوم العاشر من المحرم فيها له لون آخر، حيث يسير في شوارعها موكب مهيب تعداده أكثر من مئتين وخمسين ألف نسمة يلطمون الصدور تارة ويلطمون الخدود ويضربون الرؤوس ثالثة وبشكل متناسق ويصرخون بشعارات أبي الضيم عليه السلام "هيهات منا الذلة" و "يا حسين" تلك الصرخة التي أشاد بها إمامنا الصادق عليه السلام بقوله: "اللهم ارحم تلك الأعين التي جرت دموعها، رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي حزنت واحترقت لنا، وارحم تلك الصراخة التي كانت لنا..." ولا يخفى ما لهذه المواكب من تأثير سحري في تقوية عقيدة الناس إذ أن الأهازيج الحزينة المترافقة مع لدمات الصدور المشوبة بالأسى لا شك أنها تكهرب الشعور الإنساني بشحنات انفجار عاطفي مسجون بالبكاء، والذكريات والخواطر.


(1) ابن كثير، من البداية والنهاية.
(2) قهرمانان اسلام ص‏198، ج‏3، المؤلف علي أكبر تشيد - باللغة الفارسية.
(3) دول الشيعة في التاريخ، ص‏28، الشيخ محمد جواد مغنية.
(4) تاريخ النياحة، ج‏2، ص‏73، السيد صالح الشهرستاني
.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع