الشيخ أكرم بركات
بعد ما تعرفنا على معنى التقليد في المقال السابق تطرح هذا السؤال: ما هو الدليل على وجوب التقليد؟ قد يستدل العلماء المجتهدون كدليل على وجوب التقليد ببعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(1). وبعض الروايات كالتي وردت عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: "فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلِّدوه"(2).
لكن السؤال يتوجه إلينا نحن غير المجتهدين: هل نستطيع أن نستدل على التقليد بهذه الآيات وتلك الروايات؟ الجواب هو: كلا، لأن الاستدلال بها خاضع لجملة أمور لا تتوفر عند الإنسان العادي غير المجتهد فبالنسبة للرواية الواردة عن الإمام العسكري عليه السلام ما أدرانا نحن هل هي معتبرة من حيث السند أم لا؟ حتى يصح أن نعوِّل عليها دليلاً في وجوب التقليد، وهل هي معارضة بغيرها أم لا؟ وهل تحمل معنى الوجوب أم لا؟ وبالنسبة للآية الكريمة السابقة نتساءل عن المراد من أهل الذكر فهل هم الأئمة المعصومون فقط أم تشمل العلماء غيرهم أيضاً؟ مع كون البعض يفسِّرها بأهل الكتاب وهل صيغة الأمر "اسألوا" تدل على الوجوب أم لا؟ إن الأجوبة عن تلك الأسئلة لا يمكن للإنسان العامي غير المجتهد أن يجيب عليها فكيف يعتمد عليها دليلاً في تقليده؟؟
انتبه:
إياك أن تقول إنا نعتمد على الفقهاء في توثيق الرواية. وعلى الأصوليين في أن صيغة الأمر تدل على الوجوب. إياك أن تقول هذا هنا في بداية التساؤل عن دليلك على التقليد؟ لأنه جواب يعتمد على التقليد تبريراً للتقليد، فحينها تكون مُقلَّداً ودليلك هو التقليد. وهذا الأمر أشبه بقول القائل: أنا أقلِّد لأن المرجع الفلاني يقول بوجوب التقليد على من لا يستطيع اجتهاداً أو احتياطاً وكذا المرجع الفلاني والفلاني وهكذا. فإن هذا القائل يستدل على صحة تقليده للآخرين بتقليده للآخرين، أَوَ يَصُحُّ أن يكون عين الشيء دليلاً عليه؟!!
* تصحيح المسار
إذاً ما هو دليلنا نحن الذين لم نتوفق للاجتهاد على التقليد؟ الجواب: ينطلق من عقولنا ورؤيتنا لواقع المجتمع العقلاني فإننا نجد أن الناس حينما يواجهون متطلبات الحياة يجدونها متشعبة جداً فهناك حاجات طبية وصناعية وزراعية وهندسية وهكذا. وبعض هذه المتطلبات قد يعرفها جلُّ الناس بشكل واضح فكل إنسان بحكم التجربة الساذجة في حياته يعلم أنه إذا تعرَّض إلى مناخ بارد فجأة فقد يصاب بأعراض حمى ولكن كثيراً من أساليب الوقاية والعلاج لا يعرفها إلاَّ عن طريق الطبيب ولا يعرفها الطبيب إلاَّ بالبحث والجهد، وهكذا الحال في مجال التعمير والبناء ومجالات الزراعة والصناعة على اختلاف فروعها. جوابنا نحن غير المجتهدين، على وجوب التقليد يأتي من قراءة عقولنا لواقع المجتمع الإنساني العقلاني فنكون في جوابنا غير مقلِّدين بل نجتهد "لا بمعنى الاجتهاد الاصطلاحي" لنتعرف بعقولنا على وجوب التقليد.
ومن هنا وجد كل إنسان إنه لا يمكن عملياً أن يتحمل بمفرده البحث والجهد العلمي الكامل في كل ناحية من نواحي الحياة لأن هذا عادة أكبر من قدرة الفرد وعمره من ناحية ولا يتيح له العمل في كل تلك النواحي بالدرجة الكبيرة من ناحية أخرى، فاستقرت المجتمعات البشرية على أن يتخصص لكل مجال من مجالات المعرفة والبحث عدد من الناس فيكتفي كل فرد في غير مجال اختصاصه بما يعلمه على البديهة ويعتمد فيما زاد عن ذلك على ذوي الاختصاص محملاً لهم المسؤولية في تقدير الموقف وكان ذلك لوناً من تقسيم العمل بين الناس سار عليه الإنسان بفطرته منذ أبعد العصور. ولم يشذ الإسلام عن ذلك بل جرى على نفس الأساس الذي أخذ به الإنسان في كل مناحي حياته فوضع مبدأيّ الاجتهاد والتقليد فالاجتهاد هو التخصص في علوم الشريعة والتقليد هو الاعتماد على المتخصصين؛ فكل مكلف يريد التعرف على الأحكام الشرعية يعتمد أولاً على بداعته الدينية العامة وما لا يعرفه بالبداهة من أحكام الدين يعتمد في معرفته على المجتهد المتخصص، ولم يكف اللَّه تعالى كل إنسان بالاجتهاد ومعاناة البحث والجهد العلمي من أجل التعرف على الحكم الشرعي توفيراً للوقت وتوزيعاً للجهد الإنساني على كل حقول الحياة. كما لم يأذن اللَّه سبحانه وتعالى لغير المتخصص المجتهد بأن يحاول التعرف المباشر على الحكم الشرعي من الكتاب والسنة ويعتمد على محاولته بل أوجب عليه أن يكون التعرُّف على الحكم عن طريق التقليد والاعتماد على العلماء المجتهدين"(3).
إذاً فجوابنا نحن غير المجتهدين، على وجوب التقليد يأتي من قراءة عقولنا لواقع المجتمع الإنساني العقلاني فتكون في جوابنا غير مقلَّدين بل نجتهد لا بمعنى الاجتهاد الاصطلاحي لنتعرف بعقولنا على وجوب التقليد. لذا حينما سئل الإمام الخامنئي دام ظله في أول مسألة في أجوبة الاستفتاءات هل وجوب التقليد مسألة تقليدية أم اجتهادية؟ أجاب قائلاً: "هو مسألة اجتهادية عقلية"(4).
(1) سورة الأنبياء، الآية 43.
(2) وسائل الشيعة ج18 ص95.
(3) انظر: الشهيد الصدر، الفتاوى الواضحة، ص89 90.
(4) أجوبة الاستفتاءات ج1 ص1.