نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

دعوة إلى إعادة صياغة التاريخ (1) "فلسطين والكذب اليهودي"!

حسن زعرور


منذ احتلال فلسطين والدفن المتعمد لحضارتها يتلازم مع التهويد الحاصل للتاريخ والجغرافيا بنسقٍ موازٍ لبناء حضارة زائفة، تعمل الصهيونية على ترويجها فتتحدث عن وجودٍ يهودي مغرق في القدم، بحسب إدعائها فوق الأرض المحتلة.

 وبقدر ما تقوم به من تضليل متعمّد لطمس الحقائق، بقدر ما نسهم نحن، ولاعتبارات عدَّة، في استمرارية هذا النهج، بحيث أن مواجهتنا لهذه المسألة وقفت عند حدود ما يؤرخ، من دون أن نعمد إلى مواجهته بما نملكه من ثوابت على كثرتها لإظهار زيفه، أو أن نعلن إيماننا المطلق بحقوقنا الأزلية على كامل التراب الفلسطيني.

* ضرورة إبراز الحقيقة التاريخية
إن إظهار دور الشعب الفلسطيني وحضارته منذ القدم فوق أرضه، أمر ملحّ لأجيالنا التي يسفعها الزيف الإعلامي المضلل ببريقه؛ ولأنه صلة وصل بين جذور الماضي وحوافزها المستقبلية. وهو يحدّ من الارتكان والارتهان الفكري للترويجات الإسرائيلية عند حضارة عبرية قديمة في فلسطين، وهي محض اختلاق، خصوصاً وأن الإسرائيليين ولقرون عدّة استغلوا التبعية اللاّهوتية المسيحية، وقربها الأدائي العبادي من الشعائر العبادية الأدائية اليهودية، وعملوا على تنشيط الحوافز الدينية الدافعة، وتفعيل الشعائر تأييداً للعودة إلى فلسطين، كامتثالٍ لأمر الرب.

ويقول مارتين(1) بهذا الخصوص: "إن إسرائيل تقوم على أرضٍ لها فيها حقٌ مطلق ممنوح من قبل اللَّه". وقد حاذر باحثونا التطرق إلى المغالطات التي يحفل بها العهد القديم، مخافة المساس، أو المواجهة مع الدين اليهودي، مع أن المطلوب إبراز الحقيقة التاريخية لا مهاجمة الدين لأن التدوين التاريخي السليم يتطلب قدراً معيناً من المصداقية، والثوابت الدقيقة، وهو ما افتقدته التوراة بسبب ما علق بها ومن شوائب من تدوينات بشرية مغرضة.

* الادعاءات الكاذبة
يعترف الكثير من البحَّاثة وجلّهم غربيون بزيف التوراة التاريخي، وأن مجاميعه المتداولة في إصحاحات العهد القديم اختلطت بالأساطير والملاحم التي نقلها الشعب العبري معه أثناء ترحاله وأسره بين الأمم، حتى عصر التدوين؛ وأن ما أورده هو خليط من تعاليم موسى وروايات الشعوب ليس إلا؛ بات من الصعب فصل التعاليم الحقيقية عن الادّعاءات الكاذبة إلا بتشريح تاريخي صادق، وهو أمر بالغ الصعوبة. لذا اعتبر هؤلاء؛ وأيَّد فرضية عدم أخذ وقائع التاريخ المدوَّن في إصحاحات العهد القديم كثوابت، وبمعنى غير معلن أن ما يدّعيه اليهود من حقٍ تاريخي في فلسطين مستندٍ إلى شرعنة دينية، هو خداع وكذب.

ويقول سيمون(2) في هذا السياق: "هناك صعوبات في فهم تسلسل الأحداث، والتكرارات، وفوضى الروايات، وفوارق الأسلوب في أسفار موسى الخمسة". وهي فوضوية يصعب إعادة صياغتها، بحيث أن بنيامين دزرائيلي(3) اعتبرها "حكايات صبيانية وأوهاماً" وكلام دزرائيلي، وهو من أسس البيت اليهودي يدحض مزاعم مؤيدي المدرسة التوراتية، وأتباعها. لقد حاول بعض المؤرخين مناقشة ما أورده العهد القديم بموضوعية، ومن دون تحيز، غير أن ما دفعوه من ثمن أرهب الآخرين وصدّهم عن القيام بأي محاولة أخرى، بعكس مؤرخي المدرسة التوراتية أمثال: برايت، وأولبرايت، وآلت، ومندنهول وسواهم، الذين فاقت الدعاية لأعمالهم كل حد، وقُدِّم لها الدعم لتلقى رواجاً، بسبب تبنيها مقولة أخذ كلام الرب في التوراة كحتمية تاريخية لا يجب أن تخضع للنقاش بسبب ألوهيتها "إذا كنا نملك التوراة، ونظرنا إلى أنفسنا كشعب التوراة، أفلا يكون علينا أيضاً أن نملك أرض التوراة؟"(4).

 ولما كان هؤلاء يدركون أن الوعود، ولو نسبت للإله لا تخلق ثوابت تاريخية، وأن التدقيق، والتوثيق، والمقاربة، والمقارنة تسمح بكشف زيفها؛ لذا عمدوا إلى خلق متاهات جدلية عبثية بهدف تشتيت أي بحث تاريخي مناقض، ولو كان مستنداً إلى بعض ما ورد في التوراة لإثبات الخطأ. وهو ما تبنّاه بعض أتباع تلك المدرسة، فكتب واحدهم معتذراً: "إن مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص العهد القديم، والتي هي من صنع الخيال"(5).

* حقيقة التاريخ المدوّن‏

ذات مرّة، تساءل روبرت يونغ بمرارة: "ولكن كيف يكتب التاريخ من جديد"(6)؟ لأن التاريخ المدوّن تتناقله الأمم وهو نتاج فكر المنتصر، أو المستعمر، يفتقر إلى الموضوعية، والصدق. وكما قال سيزار(7): "إن التاريخ الوحيد هو تاريخ أبيض"، فالمنتصر أو المستعمر يفرض إيقاعه في رواية الحدث، ويخلق له الثوابت المقبولة في ظل غياب رأي المنهزم، أو المقتول. ولو كانت هذه الثوابت مركبَّة كلياً، ولأنه في ظل تسارع الحدث تضيع الحقيقة، ويتوه العقل عن متابعة الأولويات لكثرة ما يحيط به منها. ونرانا وقد وضع الاستعمار لنا تاريخ بلادنا لننشى‏ء عليه أجيالاً، مع أن هذا الاستعمار بعيد عن الإنصاف وكما يقول ترايفر(8): "إن المصلحة الأوروبية انتحلت إنجازات حضارة الشرق القديمة لمصلحة إسرائيل، بوصفها ممثلة للدولة القومية"، لأن مصالح الأوروبيين التقت مع مصالح اليهود على إقامة سد يمنع الدول الإسلامية من تكرار محاولتها، وتهديد مصير الغرب من جديد، كما حصل إبان الفتح الإسلامي "إن الدولة اليهودية في فلسطين ستكون جزءاً من الحصن الأوروبي الذي يجابه آسيا. إننا سنكون رأس الحربة للحضارة"(9) فهل تراه كتب تاريخنا الحقيقي؟

ومن الطبيعي أن مستلزمات قيام هذه البؤرة، الدولة، في محيط معادٍ لها استوجب خلق إحداثيات على المستويات التاريخية والجغرافية والدينية، شرعنت قيامها ووأدت الحضارات المعادية لها، والتي قد تظهر الحقيقة، وساعدهم الباحثون التوراتيون في تركيز الجهد لبناء فسيفساء مختلط من الدين والتاريخ والأسطورة، تتحدث عن حق اليهود في فلسطين. ورغم الضجيج ظلَّ هؤلاء عاجزين عن إيجاد إثبات أثري واحد يؤيد مقولتهم، وأظهرت المكتشفات الأثرية في فلسطين وحولها، أنه لم يكن لهؤلاء وجود. وكيف يعقل أن آلاف الأحافير، والمكتشفات الأثرية المصرية والكنعانية والآرامية والآشورية والكلدانية غفلت عن وجود شعبٍ في فلسطين بهذه العظمة والقوة كما يدَّعون؛ حتى أنه لم يرد لهم ذكر إلا في مكتشفة واحدة مصرية أوردت اسمهم كخدم يعملون لدى المصريين.

* متاهة الوعد الإلهي‏

وبالعودة إلى قضية الوعد الإلهي الذي اعتمده التوراتيون كمستند تاريخي، نجد أن العهد القديم أدخل نفسه في متاهة لا يمكن حلها: فالرب قال لإبرام مرة: "اذهب إلى الأرض التي أريك" ولم يحدد له في الأمر فلسطين، كان إبرام راعياً للمواشي؛ لذا كان عليه البحث عن مرعى. ولما كان لم يجده، فإن الرب ظلّ حائراً في البدء، خرج إبرام من حاران إلى كنعان، وعند بلوطة مورة قال الرب: "لنسلك أعطي هذه الأرض" مع أن إبرام رفض البقاء فيها، وتابع سيره إلى مصر، مما يدل على أن هذا الوعد ركّب لاحقاً على لسان الرب؛ بدليل أن التوراة أكدّ أن: "إبرام تغرَّب في أرض الفلسطينيين أياماً"(10).

ومن المضحك أن اليهود وإبرام لم يكونوا يعرفون اسم هذا الرب، وانتظروا حتى مجيى‏ء موسى )ع( ليعرفوا اسمه "فقال موسى للرب ها أنا آتي إلى بني إسرائيل، وأقول لهم إله آبائكم إليكم فإذا قالوا لي ما اسمه، فماذا أقول لهم؟ فقال: اللَّه لموسى أهيه الذي أهيه"(11) وبرر عدم معرفة إبرام باسمه، فقال: "وأما اسمي فلم أعرف عندهم". فكيف يمكن لهذا الرب الذي لا يعرفون اسمه، أن يسمي لهم فلسطين في وعده، وينسى اسمه هو؟ والأشد من ذلك أن العهد القديم نفسه تحدث عن أن يعقوب لم يكن يعرف اسم الرب، فكيف عرف بوعده لليهود بفلسطين؟ "ودعا يعقوب اسم المكان الذي فيه تكلم اللَّه معه بيت أيل"(12) وأيل إله كنعاني عبده الآراميون والأوغاريثيون، ثم كلّم الرب إبراهيم قائلاً: "كل الأرض من الموضع الذي أنت فيه شمالاً، وجنوباً، وشرقاً، وغرباً أعطيها لك، ولنسلك"(13).

ثم إن التوراة في حديثه عن تلك المرحلة يتحدث عن سكان فلسطين بعبارات "شعب الأرض" و"كان الكنعانيون حينئذٍ في الأرض" و"أرض كنعان" و"أرض الفلسطينيين"(14) حتى أن إبرام اضطر لشراء قبر أو أرض بمساحة قبر من عفرون ... لدفن زوجته الميتة(15). فهل يحتاج من وعده الرب بكل الأرض لشراء قبر لزوجته من عفرون؟

* إثباتات تاريخية
ونستخلص من خلال النص إثباتاتنا التاريخية وهي:

أولاً: إن الشعب العبري كان شعباً بدوياً يعتمد على الترحال لرعاية المواشي، وإن رواياته مجرد أساطير معهودة لدى الشعوب البدوية.

ثانياً: إن الشعب العبري لم يكن مؤهلاً حضارياً لتقبل قيام وطن محدد له؛ لذا تحدث عن أراضٍ شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، من دون تحديد. ولقد سجد إبرام لعفرون ... لأنه أعطاه أرضاً صغيرةً لدفن زوجته بحسب نص التوراة، وهو ما يظهر أن العبودية كانت نمطاً في الشعب اليهودي؛ لذلك لم يجد التوراة حرجاً من تصوير سجود إبرام لعفرون، مع أن إبراهيم مختار من اللَّه، وعفرون مجرد فرد من الغوييم.

ثالثاً: إن هناك ثمانية نصوص مختلفة في "الوعد الإلهي" أوردها التوراة، وهو دليل على كذبها، وزيفها؛ لأنها لو كانت من الرب لما كان بينها اختلاف.

رابعاً: أظهر التوراة من خلال حديثه عن إبرام، ودون قصد منه أن الشعب الفلسطيني كان راقياً، وله حضارة اجتماعية وخلقية. يقول التوراة أن عفرون .... وهب لإبرام أرضاً لدفن زوجته دون مقابل؛ مما جعل إبرام يسجد بين يديه، إن مسألة السجود هنا إيحاء بيّن، وصورة صادقة لما كان عليه الشعب العبري من دونية، والشعب الفلسطيني من سمو، وتعامل اجتماعي متطور. وهو دليل على حضارة ورقي؛ لأن بلوغ هذه المرحلة التعاملية يتطلب تكاملاً اجتماعياً أدائياً واسعاً.

إن هذه الثوابت وغيرها تلزمنا بالبحث عن حضارة الشعب الفلسطيني الذي أعمت الأعين عنه صورة الحضارة اليهودية الكاذبة، حتى لا تغرق أجيالنا في الظلام.


(1) مارثن: باحث ومؤرخ توراتي.
(2) باحث ومؤرخ تاريخي.
(3) رئيس وزراء بريطاني من أصل يهودي.
(4) موشيه دايان جيروزاليم بوست 1977-8 -10.
(5) أسطورة الشعب الإسرائيلي طومسون هولندا.
(6) باحث ومؤرخ تاريخي.
(7) باحث ومؤرخ تاريخي.
(8) باحث ومؤرخ تاريخي.
(9) تيودور هرتزل.
(10) تكوين أصحاح 21.
(11) تكوين أصحاح 35.
(12) تكوين أصحاح 23.
(13) تكوين أصحاح 13.
(14) تكوين أصحاح 21.
(15) تكوين أصحاح 23.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع