نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الزيارة: مظهر التوحيد الكامل

الشَّيْخ معين دقيق


العُبَّاد في مدرسة أهل البيت عليهم السلام يمكن لهم أنْ يتواصلوا مع ربّهم ويتقرَّبوا إليه في العبادات التي تعتمد على الكلام، من خلال طرقٍ متعدّدة، كقراءة القرآن التي هي مظهر من مظاهر استماع العبد كلامَ ربِّه، والدعاء من مظاهر مخاطبة العبد ربّه، وله آدابه وشرائطه التي تذكر في محلِّها، وزيارة حجج الله وأوليائه من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام.

*من مظاهر التوحيد
ومحلُّ الكلام في هذا المقال المختصر الطريق الأخير الَّذِي تسالمت على مشروعيّته صحابة رسول الله والتابعون الأوائل لهم، واعتبروه مظهراً من مظاهر توحيده تعالى والتقرُّب إليه، ولكن خالف بعضهم هذا التسالم، خصوصاً في العصور المتأخّرة، وأصبح يُشنّع على المسلمين زياراتهم، ويعتبرها مظهراً من مظاهر الشرك بالله تبارك وتعالى.

والصَّحيح في مدرسة أهل البيت عليهم السلام أَنَّ هذه العبادة -كغيرها من العبادات، من قبيل: الصَّلاة، وقراءة القرآن والدعاء- قد تكون مظهراً للتوحيد، وقد يقع فيها الرياء والشرك والعجب وما شابه ذلك، فتخرج عن كونها عبادة خالصة لله تبارك وتعالى. فكما إنَّ خروج الصَّلاة بمثل هذه الأمور لا يجعلها ساقطةً عن قابليتها لتكون مظهراً من مظاهر عبادة الله، فكذلك عروض الشرك والرياء ونحوهما على زيارة أولياء الله لا يجعلها خارجةً عن أنْ تكون مظهراً من مظاهر توحيده تعالى والتقرُّب إليه.

والمقياس في توصيفها يرجع إلى النِّية تارةً، والمضمون تارةً أخرى، والشخص المزار ثالثة.

وفي هذا المقال، ومن خلال تسليط الضوء على مضمون بعض الزيارات؛ يتّضح لنا أَنَّ مضامين الزيارات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام تمثّل أعلى معاني التوحيد بمراتبه المختلفة.

ولكون استيعاب البحث في كُلِّ جوانب ذلك بحاجةٍ إلى كتابٍ أو مقالٍ طويل، نقتصر في هذه الوريقات على التدليل على المطلوب من خلال بعض مقاطع الزيارة المأثورة للإمام الرضا عليه السلام.

*محورية الله تعالى في الزيارة
فالمتتبّع لما ورد في زيارته عليه السلام ومقدّماتها والأدعية التي تُقرأ بعدها يلاحظ محوريّة الله تبارك وتعالى في كُلِّ مقاطعها وفقراتها.

حيث تبدأ تلك الفقرات بنداء الله تبارك وتعالى ومخاطبته، بقول الزائر: "اللَّهُمَّ"، فمن أراد أنْ يغتسل في بيته أو محلّ إقامته قبل أنْ يخرج للزيارة يقول: "اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي وَطَهِّرْ قَلْبِي..."(1)، وقد تكرَّر ذلك في مقدّمات الزيارة في خمسة موارد، وفي أصل الزيارة أكثر من ذلك بكثير.

ولم يُكتفَ بهذا النَّوع من النداء والخطاب، بل كان التأكيد على أَنَّ القاطع للمسافات والمتحمِّل للمشقّات قاصداً مقام الأولياء عليهم السلام إنَّما هو في الواقع يقصد الله تبارك وتعالى، ويلبِّي نداءه.

فقد ورد استحباب أنْ يقال حين الخروج من المنزل: "إِلَيْكَ [الله] تَوَجَّهْتُ وَإِلَيْكَ قَصَدْتُ وَمَا عِنْدَكَ أَرَدْتُ"(2).

هذا، وكلّ مقاطع الزيارة وما يأتي بعدها من الدُّعاء مشرَّبٌ بما يدلُّ على محورية الله عند الزائر، ففي الدعاء الوارد بعد الزيارة جاء: "ثُمَّ تَنَكَبُّ عَلَى الْقَبْرِ وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ صَمَدْتُ مِنْ أَرْضِي وَقَطَعْتُ الْبِلَادَ رَجَاءَ رَحْمَتِكَ فَلَا تُخَيِّبْنِي وَلَا تَرُدَّنِي بِغَيْرِ قَضَاءِ حَوَائِجِي وَارْحَمْ تَقَلُّبِي عَلَى قَبْرِ ابْنِ أَخِي نَبِيِّكَ"(3). فلو كانت الزيارة من مظاهر الشرك، لكان الأوْلى بالزائر عند انكبابه على القبر أنْ يخاطب صاحب القبر لا خالقه. فالزائر في تقلُّبه يميناً وشمالاً حول القبر إِنَّما يطلب بذلك الرحمة وقضاء الحوائج من ربِّه تبارك وتعالى.

*الزيارة مظهرٌ من مظاهر التوحيد الأفعاليّ
جُمَلُ الزيارة ومقاطعها مشحونة بالتصريح بتوحيد الله تبارك وتعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، فبمجرّد أنْ يقف الزائر مواجهاً لقبر إمامه عليه السلام يقول: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَنَّهُ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ"(4). فكيف يجتمع الشرك مع هذه الشهادة لله بالأُولوهية؟ وكيف يكون الزائر للإمام مفضّلاً له على نبيّه مع شهادته له بالسيادة على الأنبياء والمرسلين؟ وعند خروج الزائر من المنزل قاصداً الزيارة ورد استحباب أنْ يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ وَجَّهْتُ وَجْهِي وَإِلَيْكَ فَوَّضْتُ أَمْرِي وَإِلَيْكَ أَسْلَمْتُ نَفْسِي وَإِلَيْكَ أَلْجَأْتُ ظَهْرِي وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى إِلَّا إِلَيْكَ"(5). ومثل هذا التعبير يدلُّ على انحصار التوجُّه بالله وتفويض الأمر وإسلام النفس وإلجاء الظهر له والتوكُّل عليه تبارك وتعالى، من خلال تقديم ضمير الخطاب على الفعل على حدِّ قوله تبارك وتعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الحمد: 5)، وهذا مظهرٌ من مظاهر التوحيد الأفعالي.

*إذن الدخول من مظاهر التوحيد
وفي إذن الدخول يقف العبد قريباً من مقام الإِمام عليه السلام، والكلمة الأُولى التي تصدر منه هي نداء الله ومخاطبته بقوله: "الْلَّهُمَّ"، ليتبيَّن أَنَّ الاستئذان في الدُّخول إِنَّما هو بأمرٍ منه تبارك وتعالى؛ حيث إِنَّه قال في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (الأحزاب: 53).

*الغاية من الزيارة
الشفاعة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وحثّت على طلبها روايات سيِّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم تكون بغيةً للزائر في زيارته، والآيات النافية لها إنَّما تنفيها بالنسبة إلى أولئك الَّذِين يُعبدون من دون الله تبارك تعالى، أو كانوا يصدُّون أتباعهم عن سبيل الله، كما في قوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ (الأنعام: 94).

أمَّا الَّذِي يقف زائراً لأئمّة الهدى عليهم السلام فلم يعبدهم، ولم يتّخذهم شركاء، وإنَّما مقام قربهم من الله تبارك وتعالى صيّرهم من الَّذِين أذن لهم الله في الشفاعة: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (البقرة: 255)، وهذا ما نراه بوضوح في زيارة الإِمام الرضا عليه السلام؛ حيث ورد: "أَتَيْتُكَ زَائِراً وَافِداً عَائِذاً مِمَّا جَنَيْتُ بِهِ عَلَى نَفْسِي وَاحْتَطَبْتُ عَلَى ظَهْرِي فَكُنْ لِي شَفِيعاً إِلَى رَبِّكَ يَوْمَ فَقْرِي وَفَاقَتِي فَإِنَّ لَكَ عِنْدَ الله مَقَاماً مَحْمُوداً وَأَنْتَ وَجِيهٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"(6).

هذا، وزيارةٌ هدفها التقرُّب إِلَى الله تبارك وتعالى بحبِّ أوليائه لا يمكن أنْ تكون إِلَّا مظهراً من مظاهر التوحيد في العبادة، فقد ورد فيها أيضاً: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِحُبِّهِمْ وَ بِمُوَالاتِهِمْ"(7).

*التوحيد بكلّ مراتبه في الدعاء بعد الزيارة
لا يسعني في ختام الكلام إِلَّا أنْ أُعرّج على ذلك الدعاء المخصوص الوارد بعد زيارته عليه السلام، والذي تجلّت فيه معاني العبودية لله، وأشبعت جمله بتعظيم الله وتبارك وتعالى وتجليله، وأكتفي بنقل مقطع منه وأترك الحكم والتعليق للقارئ اللبيب: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا الله، الدَّائِمُ فِي مُلْكِهِ، الْقَائِمُ فِي عِزِّهِ، الْمُطَاعُ فِي سُلْطَانِهِ، الْمُتَفَرِّدُ فِي كِبْرِيَائِهِ، الْمُتَوَحِّدُ فِي دَيْمُومِيَّةِ بَقَائِهِ، الْعَادِلُ فِي بَرِيَّتِهِ الْعَالِمُ فِي قَضِيَّتِهِ الْكَرِيمُ فِي تَأْخِيرِ عُقُوبَتِهِ..."(8).

جعلنا الله وإيَّاكم من الموحّدين في زيارة أولياء الله وأحبّائه، ومن الَّذِين تنالهم شفاعتهم في الدنيا والآخرة...


1- كامل الزيارات، ابن قولويه، ص309.
2- (م.ن).
3- (م.ن)، ص312.
4- (م.ن)، ص310.
5- (م.ن)، ص309.
6- (م.ن)، ص312.
7- (م.ن)، ص313.
8- بحار الأنوار، المجلسي، ج99، ص55.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع