مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

عقيدة: معرفة الله أم إثبات وجوده؟‏

في الكتب العقائدية التقليدية يدرس موضوع التوحيد في مقدمة الأبواب لأنه الأصل الأول في العقيدة الإسلامية، وفي الكتب العقائدية الحديثة بدأت مسألة معرفة الله تطرح كعنوان لبحث التوحيد، ولكن البحث غالباً ما ينصرف هنا وهناك إلى موضوع إثبات وجود الله تعالى، فما هو المطلوب وراء ذلك؟ إذا أردنا أن ننظر إلى القرآن ككتاب عقائدي ومصدر أول في موضوع معرفة الله وتوحيده ومنبع أوحد في المعارف الإلهية، نجد أنفسنا أمام مجموعة قليلة من الآيات التي تتعرض لموضوع إثبات وجود الذات الإلهية. وفي المقابل نقف على عشرات الآيات التي تتناول موضوع التوحيد بالشرح والإثبات ومئات الآيات الشريفة في موضوع معرفة الله تعالى.

أما إذا راجعنا الروايات والأحاديث التي وردت عن أهل بيت العصمة والطهارة في هذا المجال، فإننا نلحظ نفس القسمة، علماً بأن موضوع الإلحاد بالله ونفي وجود الذات الإلهية بدأ بقوة في عصر الأمويين والعباسيين وقد دخل الزنادقة إلى المساجد، وكانت لهم مجالس للبحث والدرس. إلا أن مناظرات الأئمة عليهم السلام مع عشرات من أولئك تبين ما ذكرناه. وقد يحلوا للبعض أن يقول بأن القرآن إنما شدد على أمر التوحيد وأهمل التأكيد على إثبات وجود الله لأن أكثر الناس في عصر نزول القرآن كانوا مشركين ولم يكونوا ملحدين. ولكن هذا الكلام يستبطن اتهاماً فادحاً وجهلاً مركباً. فالقرآن نزل لكل العالمين وإلى يوم الدين، ولم يختص لعصر دون عصر أو شعب دون آخر، وتشهد على هذا الآيات التي تظهر القرآن كتاباً لهداية الناس دون إشارة إلى زمان أو مكان، وتربط هداية القرآن بخصائص وشروط يمكن تحصيلها في أي حال وزمان. أما الذي يدّعي مثل ذلك القول فإنما ينطلق من جهل بواقع وحقيقة البشر، وذلك لأن الإنسان عندما ينحرف ويحيد عن الحق فهو إنما يحيد عن جادة التوحيد، وعندما يتكامل فهو يتكامل بمعرفة الله تعالى. هذا وقلة من الناس في كل العصور والأزمنة يحيدون عن مبدأ وجود الله، ولهذا جاءت الآيات القرآنية منسجمة مع طبيعة البشر ومنهج تفكيرهم.

والآن لو رجعنا قليلاً إلى الكتب العقائدية، فسوف نشاهد مخالفة للمنهج القرآني في التعاطي مع مبدأ معرفة الله. فقد انصب الاهتمام على مسألة إثبات الوجود. وألفت عشرات الكتب ووضعت عشرات الأدلة في الإثبات، ظناً بأن الموجة الإلحادية هي الأكثر خطورة. ولكننا بعد التحليل الدقيق والدراسة المعمقة ندرك أن المشكلة ما زالت كما هي، وأن حاجة الناس ما زالت للتوحيد ومعرفة الله، وأن أكثر ما تعانيه البشرية ناشئ‏ من البعد وعدم الإيمان.

* جوهر الاختلاف‏

من خلال هذا العرض السريع يلتفت القارئ‏ إلى وجود اختلاف بين إثبات وجود الله وتوحيده ومعرفته. فما هي حقيقة هذا الاختلاف، ومن أين نشأ هذا التقسيم؟ ونحن نطرح هذا السؤال: هل يمكن تحقيق الإثبات دون المعرفة؟ فالشي‏ء الذي نريد إثبات وجوده - مهما كان - لا بد أن نمتلك تصوراً واضحاً عنه. فالتصور مقدم على التصديق، وإذا لم يكن التصور واضحاً كان البحث يدور حول شي‏ء آخر. هذا التصور الذي نتحدث عنه ليس إلا مرتبة من مراتب معرفة الله. فخلافاً لما يظن البعض، تتقدم المعرفة على الإثبات. ثم إذا رجعنا إلى التوحيد لوجدنا أن أهم الأدلة المطروحة فيه تقوم على أساس المعرفة الصحيحة بالذات الإلهية، بل يمكن القول أن كل الأدلة التي تنطلق من غير المعرفة لا قيمة لها، وهي ساقطة من الاعتبار. وما أروع ما يبينه القرآن بقوله تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا الله والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط.

فهذه الشهادة هي شهادة الحقيقة الإلهية على الوحدانية وهي أشرف ما قيل وأعظم مما يقال. وهكذا عندما يطرح موضوع الشريك يقال أن شريك الباري ممتنع. كل هذا لأن العقل لا يمكن أن يتصور شريكاً للباري عز وجل. أما أولئك الذين تصوروا الشريك (حتى ولو كانوا في مقام نفي الشريك) فإنهم جاهلون بحقيقة الله. وما يتصورونه في هذا المجال مخلوق مثلهم، لا يخرج عن حدود الاعتبار. وعبد هذا التأمل البسيط ندرك المعرفة مقدمة على التوحيد. ثم إذا أعدنا التأمل كرة أخرى، وجدنا كل هذه المبادئ‏ متحدة كاتحاد الحقيقة والرقيقة، ومشهودة كالمرآة والرائي. فإلى أيها نظرت شاهدت الآخر مستبطناً فيها. فالمشكلة إذن تكمن في عرض القضايا الإلهية.

ففي أغلب الأحيان يقدم القارئ‏ مرآة صافية بدل أن يقال له انظر إلى ما في المرآة. وبدل أن تتحول هذه المسفورات العقائدية إلى حبال ربط المخلوق بالخالق ووسائل ارتقاء العبد إلى المعبود، تكون حجباً اصطلاحية تمنع المطلع من تحصيل الفائدة المرجوة. قال الإمام الصادق عليه السلام: "لو علم الناس ما في فضل معرفة الله لما مدوا أعينهم إلى ما متع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، ولكانت دنياهم أقل عندهم مما يطأونه بأرجلهم ولنعموا بمعرفة الله تعالى وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله. إن معرفة الله أنس من كل وحشة وصاحب من كل وحدة ونور من كل ظلمة وشفاء من كل سقم وقوة من كل شعف". فانظروا إلى عمق هذه المعرفة وآثارها، كيف ترتقي بالعارف في مراتب الكمال لتوصله إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم تأملوا حديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "لو عرفتم الله حق معرفته لساخت بدعائكم الجبال".

وارجعوا إلى كتاب الله المجيد وهو يتلو علينا بنغمات قدسية قول الرحيم: ﴿الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شي‏ء وأن الله قد أحاط بكل شي‏ء علما. فلا تجدون إلا غاية واحدة لكل خلق، وهدفاً أوحداً لكل فعل، وهو معرفة الله حق معرفته. من حجبه حب الدنيا والأنس بالماديات يحتاج إلى براهين الآفاق للوصول إلى إثبات الخالق ومن علت فطرته كدورات الأهواء والذنوب يحتاج إلى أدلة الأنفس لمشاهدة التصديق. ولكن هذا وذاك سرعان ما يدركان أن ما وصلا إليه كان مستبطناً في أعماق وجودهم، لا يجدون ثقلاً في حمله ولا تعباً في حفظه. وإذا سارا في طريق المعرفة أدركا فداحة ما كان يعميهما فـ: ﴿الله نور السموات والأرض. وإذا ارتقيا في مراتب التوحيد صرخا بنداء قدسي: "ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك...". وما أروع ما قيل: "العالم غائب ما ظهر قط والله ظاهر ما غاب قط".
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع