مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

زيارة العارفين بحقّهم

آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي (حفظه الله)


من جملة طرق تعظيم أصحاب الكمال والمفاخر زيارتهم، لأنّ ذلك يؤدّي إلى بقاء واستمرار حياتهم العلميّة والفنيّة والمعنويّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ زيارتهم تشكّل أحد أسباب الاتّصال بين الجيل الحالي والأجيال اللاحقة وبين الأجيال السابقة وهي واسطة الاتّصال الروحيّ بهم وبكمالاتهم.


تعود جذور الزيارة إلى مادة "زَوَر". أمّا معنى أصل هذا المصطلح فهو الميل والعدول عن الشيء. ويقال للكذب إنّه زُور، لأنّه ميل وانحراف عن طريق الحقّ(1).
وقال بعضٌ: إذا كان عنوان الزيارة يطلق على لقاء الأولياء والعظماء، فلأنّ هذا العمل انحراف عن الحركة الماديّة والعدول عن عالم الطبيعة والالتفات إلى عالم الروحانيّات، مع الوجود في الطبيعة والاحتفاظ بالجسمانيّة.

إنّ أصل الزيارة هو التوجّه إلى مقام المزور، والتأمّل في نصّ الزيارة وبذل الجهد في تهذيب النفس وتزكيتها.

*الزيارة في الروايات
نقل عبد الله ابن الخليفة الثاني عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من جاءني زائراً لا تحمله إلّا زيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة"(2). وقد نقل المتتبّع الكبير العلّامة الأميني رحمه الله هذا الحديث عن ستة عشر رجلاً من محدّثي وحفّاظ أهل السنّة. ونقل عن واحد وأربعين رجلاً من عظمائهم عن عبد الله بن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مَن زار قبري وجَبت له شفاعتي"(3).

يروي إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "مرّوا بالمدينة فسلّموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد"(4). صحيح أنّ الزيارة عن بعيد مقبولة؛ بل ومرغَّب بها، إلّا أنّ هذا الحديث يشير إلى خصوصيّة الحضور عند قبره صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك كانت الوصيّة به. من جملة هذه الخصوصيّات ما يأتي:

1. الاستفادة من الفضاء المعنويّ للأماكن الشريفة –التي تتردّد إليها الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والتي هي محلّ تردّد وتعلّق الروح العظيمة لذاك المزور على وجه التحديد- والدعاء في مظانّ استجابة الدعاء. مع العلم أنّ الاستفادة من الأجواء المعنويّة للمسجد الحرام ومسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والدعاء فيهما محلّا قبول الوهابيّة الذين يعملون بذلك.

2. نشر الثقافة التوحيديّة وولاية أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام في الطرق والمدن التي تقع على مسير المشاهد المشرفة.

3. دلالة صدق الزائر في حبّه وعلاقته بالمزور.

4. ارتباط الأمم والشعوب بعضها ببعض واطلاع بعضها على مشكلات بعضها الآخر.

5. الوفاء للمقتدى والالتزام بالعهد المقطوع معه.

6. كانت مقامات الأئمّة المعصومين عليهم السلام طوال التاريخ مراكز للعلم والتبليغ والترويج للدين، ومبدأ العديد من الثورات والحركات ومحلّ عقد الاتفاقات والقسم على النهوض والتحرّر والحركات الانتقاميّة و... وتنشأ هذه البركات بأجمعها من الذهاب والإياب ومراودة الزائرين.

*مراحل إثبات الكمال
إنّ لإثبات كلّ فضيلة وكمال ثلاث مراحل:

1. إمكان اتّصاف الإنسان بذات الكمال.

2. ضرورة الاتصاف بذاك الكمال؛ بمعنى لو لم يتحقّق ذاك الكمال والفضيلة ولم يتّصف بهما شخص فما هو الإشكال الذي سيحصل؟ وإذا اتّصف شخص بهما فما هي الآثار الإيجابيّة والنتائج المفيدة التي تتحقّق؟

3. تعيين المصاديق الخارجيّة والتعريف بأصحاب ذاك الكمال.

*عوامل معرفة المراحل الثلاثة
إنّ العقل يدرك الكليّات باستمرار ويمتلك القدرة على إثباتها أو نفيها فقط؛ أمّا تقديم رأي حول مصاديقها الجزئيّة فذاك خارج عن دائرة نشاطه. وعلى هذا الأساس فالعقل بإمكانه دراسة المرحلتين الأولى والثانية، إلّا أنّ العقل قاصر في المرحلة الثالثة؛ أي مرحلة اتصاف شخص خاصّ بكمال معيّن، لأنه من الأمور الجزئيّة.

إنّ جميع الزيارات -ومن جملتها الزيارة الجامعة الكبيرة- كالعديد من الروايات تتكفّل بالمرحلة الثالثة من البحث؛ أي الإثبات النقلي لهذه الفضائل والكمالات للحجج الطاهرة عليهم السلام.

*مساعدة العقل في تشخيص المصداق
أشرنا إلى أنّ دائرة نشاط العقل هي مرحلتا إمكان اتصاف الإنسان بالكمالات، وضرورتها، إلّا أنه يساعد الإنسان في مرحلة تعيين المصداق وذلك في حدوده؛ أي حدّه العام. يستدلّ العقل أثناء مساعدة الإنسان في هذا المجال على النحو الآتي:

1. إنّ نظام الوجود الموجود هو الأحسن(5).

2. من الضروريّ وجود معصوم وإنسان يمتلك هذه الكمالات والفضائل وهو على علاقة بخالق الوجود في النظام الأحسن، كما إنّ وجود الجنّة، النار، الملائكة المدبّرة للأمر، الوحي، التشريع و... ضروري لعدم انفكاك هذا النظام.

3. هكذا أشخاص موجودون بالتأكيد في المجتمعات البشرية وإلّا لن يكون النظام الموجود هو الأحسن.

4. يمكن للمعجزة أن تكون معياراً لمعرفة هكذا أشخاص؛ لأنّ خالق نظام الوجود –الحكيم الذي لا يفعل العبث- لا يعطي المعجزة لشخص يكون سبباً في ضلال عباده، بل يعطيها لسفرائه ورسله المعصومين لتكون دليلاً على حقانيّتهم.

النتيجة: إذا ادّعى شخصٌ النبوّة وجاء بالمعجزة كان يقيناً رسولاً إلهيّاً ومأموراً من قبل الله وكان كلامه، الذي لن يكون سوى الحقّ، حجّة على الجميع.

ويستنتج أيضاً أنّ الإنسان المعصوم إذا أيّد عصمة شخص معيّن أو جعله خليفة له، تثبت العصمة للخليفة وبالتالي يكون كلامه –المعصوم والمؤيّد من قبل المعصوم- حجّة أيضاً.

*زيارة المعرفة
أوصى العديد من الروايات وأكّد على معرفة المزور والتعرّف إلى منزلته. جاء عن الإمام الكاظم عليه السلام: "... من زاره [زار الإمام الرضا عليه السلام] مسلّماً لأمره عارفاً بحقّه كان عند الله جلّ وعزّ كشهداء بدر"(6). وقال الإمام الصادق عليه السلام: "زوروا الحسين ولو كلّ سنة فإنّ كل من أتاه عارفاً بحقّه غير جاحد لم يكن له عوض غير الجنّة ورزق رزقاً واسعاً وأتاه الله بفرج عاجل..."(7).

وقال عليه السلام: "وَكّل الله بقبر الحسين عليه السلام أربعة آلاف ملك شعثاً غبراً يبكونه إلى يوم القيامة، فمن زاره عارفاً بحقّه شيّعوه حتى يبلغوه مأمنه وإن مرض عادوه غدوةً وعشية وإن مات شهدوا جنازته واستغفروا له إلى يوم القيامة"(8).

وقد خاطب الإمام الصادق عليه السلام بشيراً قائلاً: "يا بشير! من زار قبر الحسين بن عليّ عليه السلام عارفاً بحقّه كان كمن زار الله في عرشه"(9).

أمّا السرّ في الوصية بأن تكون زيارة الزائر مع معرفة أنّ الداعي لكمال الزيارة هو معرفة مقام وموقع المزور، وليس الأعمال الفاقدة للروح المترافقة مع الغفلة، أمثال مجرّد تقبيل الضريح والباب والحائط والدوران حوله ومشاهدة الآثار الفنيّة وتعداد الأعمدة والمصابيح والأبواب والنوافذ من دون معرفة، حيث تصبح هذه الأعمال أشبه ما تكون بالسياحة أكثر من كونها زيارة. أمّا الثواب الأخرويّ والآثار الدنيويّة المذكورة في الروايات فهي للزيارة الحقيقيّة؛ أي التي تحصل عند وجود علاقة قلبيّة مع المزور والتي تؤدّي إلى تحوّل عند الزائر وليس السياحة والزيارة الجسميّة والصوريّة.

يشهد على هذا الادّعاء كلام البزنطي الذي يقول: قرأت في رسالة ثامن الحجج علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه قال: "أبلغ شيعتي أنّ زيارتي تعدل عند الله عزَّ وجلّ ألف حجّة. قال: فقلت لأبي جعفر عليه السلام: ألف حجّة؟ قال عليه السلام: إي والله ألف ألف حجّة لمن زاره عارفاً بحقّه"(10).

* دعوة إلى الكمال
إنّ هدف رسالة أنبياء الله هو التخلّق بالأخلاق الإلهيّة وصيرورة الإنسان إلهيّاً: "تخلّقوا بأخلاق الله"(11). وهذا هو الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بالنورانيّة: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (إبراهيم: 1)، ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (الحديد: 9)؛ أي أنّ الرأفة والرحمة الرحيميّة الإلهيّة تقتضي نزول آيات بيّنات على العبد لإخراجه من الظلمات إلى النور. وعلى هذا الأساس، يجب على الإنسان التخلّق بالأخلاق الإلهيّة والتنوّر بنور الله والتي هي بمثابة أكبر الأهداف وآخرها؛ فكلما تقدّمتم في هذا المسير، تقتربون من كمالكم.

إنّ طريق الوصول إلى الكمالات هو التخلّص من الغضب والشهوة والوصول إلى العقل المعرفيّ؛ لأنّ هذا التخلّص –الذي يتجلّى في تبعيّة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم- يقرّب الإنسان من مصدر الحياة والوجود، أي الحقّ تعالى، الذي هو منشأ كافّة الكمالات فيكون محبوباً له: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ (آل عمران: 31) كلّما اقترب الإنسان من مصدر الكمال، ازدادت كمالاته. والاقتراب إلى الله العليم، القدير، الكريم، الحكيم و... يجعل الإنسان عالماً، قادراً، كريماً وحكيماً.


1- معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج3، ص36، "زور".
2- الغدير، العلامة الأميني، ج5، ص97.
3- (م.ن)، ص93.
4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص338.
5- راجع: "عشر مقالات حول المبدأ والمعاد" آية الله جوادي آملي، المقالة الثامنة "النظام الأحسن في عالم الوجود".
6- بحار الأنوار، المجلسي، ج99، ص41.
7- (م.ن)، ص2.
8- كامل الزيارات، ابن قولويه، ج349، الباب 77، ح1.
9- بحار الأنوار، (م.س)، ج98، ص77.
10- (م.ن)، ج99، ص33.
11- (م.ن)، ج58، ص129.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع