موسى حسين صفوان
في زمن التداعيات حيث تتهافت القضايا المصيرية وتُختزل في
مشاريع ممسوخة لا تعدو كونها مبررات للقوى الاستكبارية المتسلطة للهيمنة على
الثروات الخام المكنونة في هذه البلاد، في هذا الزمن بالذات، ربما، ينبغي لنا
العودة لمراجعة المفاهيم الرئيسية لحضارتنا المشرقية، إذا لم نقل، الإسلامية، أو
حتى العربية حيث أن القضايا المصيريّة المتعلقة بالحدود الجغرافية لما كان يعرف ب "بلاد
المسلمين"، تجاوزت في أبعادها وآثارها حدود الأمة الإسلامية، فضلاً عن الأمة
العربية، لتشمل العديد من الشعوب الأخرى الداخلة بحكم توازنات القوى ضمن منظومة
الشعوب المستضعفة مما يضع العالم اليوم وبكل تأكيد أمام المفهوم السياسي الجريء
الذي طرحه الإمام الخميني قدس سره، والذي قسم العالم إلى قسمين لا ثالث لهما، وهما
القلَّة المستكبرة، وجماهير وشعوب وأمم واسعة من المستضعفين.
لقد بذلت في العقود الماضية جهود حثيثة بهدف تحويل العالم إلى قرية الكترونية صغيرة
ذات هوية استهلاكية واحدة، وبغض النظر عن أهداف تلك الحملات، فقد بات ظاهراً من
خلال قراءة ما يشهده العالم اليوم في شرقه وغربه وشماله وجنوبه، أن مخططات ما عرف "بالكوننة"
يبدو أنها باءت بالفشل، فربما استطاعت بعض المظاهر المدنية أن تجد لها فرصة أكبر من
غيرها فتنتشر على مساحة واسعة من الكرة الأرضية، وربما تخللت بعض الأنماط وعبرت
كافة الحدود لتتخذ عنوان العالمية، إلا أن ذلك كله لم يلغِ الحدود الجغرافية
والقومية، ولم يلغِ الطموحات والآمال التي تخالج وجدان الأمم والشعوب والتي تشعرها
بالانتماء، وتعزز مبررات وجودها.. من هنا تبرز أهمية الدور الذي لعبه مفهوم "الأمة"
على مدى العصور ولا يزال مرشحاً لتأديته، ويبرز أيضاً صدق المفهوم القرآني والوعي
الإسلامي لمفهوم الامتداد الجغرافي والديموغرافي للإنسان...فمع أن الإسلام يدعو إلى
رسالة عالمية إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية وما يتفرع عنها من حواجز
وموانع... فإنه لم يلغِ قط دور كل تلك العناصر، كما سوف نرى بعونه تعالى...
ففي
الوقت الذي يقول تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
(الأنبياء 107) ويقول أيضاً:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
﴾ (سبأ 28). فإنه أيضاً يقول في سورة الحجرات:
﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
﴾(الحجرات 13). من هنا نحاول أن نسلط بعض الضوء حول مفهوم الأمة
المعاصر، حيث أن هذا المفهوم من الناحية العملية، كان له الدور الأبرز في إدارة
دفّة الأحداث السياسية منذ بداية التاريخ وحتى اليوم... فما من نزاع عالمي أو
إقليمي إلا وتجد أن من أهم منطلقاته ودوافعه جملة من المفاهيم التي ترقى أحياناً
إلى مستوى العقائد، كما هي الحال في الصراع الوجودي بين الشعب الفسطيني والغزاة
الصهاينة. "في مفهومها المعاصر تعتبر الأمّة، مجموعة بشرية تكوّن تآلفها وتجانسها
القومي عبر مراحل تاريخية تحققت خلالها لغة مشتركة وتاريخ مشترك، وتراث ثقافي
ومعنوي وتكوين نفسي مشترك، والعيش على أرض واحدة، ومصالح اقتصادية مشتركة مما يؤدي
إلى إحساس بشخصية قومية وتطلعات ومصالح قومية موحّدة ومستقلة"(1). ولكن هذه الشروط
ليست نهائية كما يدّعي أصحابها، فهناك أمم لا تتوفر فيها كل تلك الشروط، ومع ذلك
استطاعت أن تكون أمّة مثل سويسرا وبلجيكا. وهناك بلدان لا يتوفر فيها الامتداد
الجغرافي مثل أندونيسيا.
وترى بعض النظريات أن الأمّة تظهر بظهور النظام الرأسمالي حيث تلعب البرجوازية
دوراً قائداً في الأمة انطلاقاً من الأساس الاقتصادي والذي بدوره يفعِّل حركة
الصراع بين مواقع النفوذ في هذه البرجوازية، وتذهب هذه النظرية بعد ذلك إلى النتيجة
الحتمية التي تنظر لها وهي اختفاء الأمم وتوحد البشرية في مجتمع واحد(2).
وقد سادت
في أوائل عصر النهضة الأوروبية قبيل الثورة الفرنسية نظريات عدّة، تتمحور حول
الشخصية القومية)National character( والتي تقسم أركان الدولة أو الأمّة إلى: الشعب
الذي يجمع بين صفات مشتركة تشكل الرابط المعنوي، والإقليم أو الأرض التي ينبغي لهذا
الشعب أن يقطنها ليشكل بصورة عملية الإطار الجغرافي للأمّة. وأخيراً الحكومة والتي
تنتظم من خلالها توجهات وسيرة حياة الأمّة. وبشكل عام يميز الغربيون بين مفهوم
الأمة العرقية
(People) والأمّة الوطنية
(Nation)، غير أنهم، عندما يقومون بتشكيل
عناصر الأمّة كما فعل جون لوك، فإنهم يتركون مساحة فضفاضة للنظام الذي يشكل عملياً
موضوع العقد المطلوب إبرامه بين الناس وبين الحاكم، وبغض النظر عن أن هذه النظريات
كانت دائماً عاجزة عن الظهور إلى الواقع العملي من دون القوى السياسية والاقتصادية
وغيرها، وبغض النظر أيضاً عن فقدان المقياس الذي يستطيع أن يحكم ويضمن تنفيذ بنود
مثل تلك العقود الاجتماعية المزعومة، فإن الفرق يبدو واسعاً جداً بين الصراعات
السياسية على أرض الواقع وبين مثل تلك المفاهيم، وبالتالي فإن هذه المفاهيم تبقى
قاصرة عن مواكبة حركة التاريخ وولادة الأمم وقاصرة عن تحديد مفهوم الأمة،
ومكوناتها، وطبيعة ونوع النظام الموائم لاستمرار نهوضها وتطورها...
وهذا يقودنا
لدراسة مفهوم الأمة في التراث الحضاري الإسلامي بهدف طرح البديل العملي لما يشكل
اليوم العنصر الأكثر تأثيراً في حركة الصراع السياسي العالمي.
(1) عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر
مادة "أمة". ط1990. دار الفارس. عمان.
(2) انظر المصدر نفسه.