الشيخ مصطفى قصير
* تمهيد
في المعتقد الشيعي إن إمامة الأئمة المعصومين جاءت بالنص الشرعي، وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد أقامهم مقامه بأمر من الباري عزَّ وجلَّ، ونصّبهم لولاية الأمة في أمور الدين والدنيا، فكان لهم ما له صلى الله عليه وآله بنص القرآن الكريم ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾.
ومع ذلك فقد أفرزت لنا الأبحاث المعاصرة في نظرية الحكم عند الشيعة الإمامية مسألة جديدة ترتبط بدور الأمة في انعقاد الإمامة أو تحقق الولاية، وذهبت الآراء في هذه المسألة في اتجاهات مختلفة، ليس في وسعنا استعراضها واستعراض مبانيها وأدلتها في مقالة مختصرة جداً، وما أريد التأكيد عليه أن الولاية المطلقة للأئمة المعصومين عليهم السلام كولاية النبي صلى الله عليه وآله تماماً، هي تشريع إلهي ثابت وفعليّ، ولا يحدّ من فعليتها اعتراض أحد ولو رفض ذلك كل الناس. وهذا شأن الولاية المشرّعة من قبل المولى عزَّ وجلَّ في كل موضع وفي كل مجال، فولاية الأب العاقل على أبنائه الصغار ثابتة بأصل الشرع حتى عند عجزه عن إعمالها أو تمرد أبنائه عليه أو منع ظالم له من القيام بلوازمها من التصرف والحفظ والأمر والنهي.
* حضور الأمة
الحق أن الأمة تقوم بدور كبير ومؤثر في تحقيق ثمرات الإمامة، وفي تمكين الإمام من إعمال ولايته، وقيامه بالأمر، وأين هذا من فعلية الولاية، نعم قد يكون مراد من عبّر بالتحقق العيني للولاية ذلك. فالإمام المعصوم له حق التصرف والأمر والنهي بما يرتبط بوظائف الإمامة كقيادة الأمة وحفظ الدين وهداية الناس وأمثال ذلك، بل هو مكلّف بذلك، ليس له أن يتخلى عنه أو يترك القيام بالأمر، وهو المعصوم الذي لا يخلّ بالتكليف ولا يترك العمل بالواجب حتماً، إلا أن هذا التكليف كأي تكليف مشروط بالقدرة والاستطاعة، وهي تتوقف هنا على حضور الأمة معه وانقيادها له واستعدادها للوقوف بجانبه ونصرته وتبني مشروعه والاستجابة لأمره ونهيه، فإذا وجد الإمام أمته كذلك قام بالأمر وإلا فلا.
وما نجده في تاريخ أئمتنا عليهم السلام من امتناعهم في بعض الظروف عن القيام بالأمر في خصوص شؤون الحكم وأمور الدولة فهو مرتبط مباشرة بتخلي الأمة عن وظيفتها وفقدان الناصر، وانتفاء القدرة بسبب ذلك، كما أن غصب الظالمين لحق أهل البيت في واقعه ليس غصباً للإمامة التي لا تغتصب ولا تمنح، وإنما هو غصب للوازمها، وادعاء لها، والقيام بموجباتها من غير أهلها، والحيلولة بين أهلها وبين القيام بالأمر. يعبّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن ذلك بأكثر من طريقة وفي أكثر من مناسبة، منها ما ورد في الخطبة الشقشقية المعروفة: "أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللَّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز" (نهج البلاغة، ج3). وعليه فالفقيه العالم العادل الشجاع المدبّر إذا وجد الأمة حاضرة مستعدة لبذل نصرتها له، والانقياد له، وجب عليه القيام بالأمر. أما البيعة المتعارفة فهي إعلان من الأمة عن هذا الاستعداد، وتعهّد منها بالانقياد والنصرة والتأييد، ولذا كانت البيعة في مواردها واجبة عندما يتوقف عليها قيام الولي بشؤون الإمامة.
* محور الولاية
في عصرنا الحاضر تتفشى رؤية علمانية الجذور، تعتبر أن الإنسان هو المحور في الوجود، وهو الأساس في منح الحاكمية للحاكم والولاية للولي، أصحاب هذه الرؤية يغفلون عن خالق الإنسان ويهملون حاكميته، أو على الأقل يسقطون الارتباط بين حاكمية غير المعصوم وحاكمية المولى عزَّ وجلَّ، فمن يريد الانطلاق من رؤية إسلامية أصيلة، فإن الإسلام يعتبر اللَّه عزَّ وجلَّ محور الوجود ومحور كل شيء في هذا الوجود، فهو الخالق والمالك الحقيقي بيده ملكوت كل شيء، فأي تصرف لا يجوز إلا بإذنه، وأي أمرٍ يجب أن يتفرع عن أمره، وأي ولاية فلا بد من رجوعها إليه، فإذا كان المحور والمدار في الأمر والنهي والتصرف هو اللَّه عزَّ وجلَّ، فعندئذ تختلف الرؤية بشكل كامل، وعندئذ يرجع البحث في الولاية والحاكمية وفي صفات الولي وفي كيفية تنصيبه إلى النص الشرعي، وإلى الدليل الدال على الإذن والتكليف الإلهي. وعلى هذا الأساس يمكن أن ننظر إلى بيعة الأمة للولي من زاويتين:
الزاوية الأولى: أنها عهد الطاعة، ولا يعطى عهد الطاعة إلا لمن أمر اللَّه بطاعتهم أو أذن بذلك، "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، فلا قيمة للبيعة عندما تعطى لطاغية أو ظالم أو فاجر أو فاسق منحرف عن شرع اللَّه تعالى أو جاهل... أما إذا كانت البيعة لمن أمر اللَّه بطاعتهم واتباعهم والتمسك بهم فتصبح تكليفاً شرعياً واجباً. "وأما حقي عليكم: بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والإطاعة حين آمركم..." (نهج البلاغة، ج24).
الزاوية الثانية: البيعة لا تؤسس الولاية، ولا تعطي الشرعية للولي، بل هي فرع على الولاية الشرعية، نعم هي تمكن الولي من إعمال ولايته، وهي تقيم الحجة عليه للقيام بالأمر بعد توفر القدرة، كما هو صريح كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام في المقطع المتقدم "وقيام الحجة بوجود الناصر". فالسعي لبناء شرعية ولاية الأمر على أساس تفويض الأمة مخالف للصواب، وبعيد عن طريقة الشريعة، وإن أعجب أصحاب الذوق العلماني. ولعل المشكلة تكمن في الخلط بين اعطاء القدرة واعطاء الشرعية، أو بين التشريع والتمكين، وشتان بينهما.
* نصوص أسيء فهمها
بعض ما يعتمد عليه القائلون بمحورية الأمة وتفرع الولاية عنها نصوص رويت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أسيء فهمها، أهمها ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في كتاب بعث به إلى معاوية يردّ فيه على اعتراض الأخير على خلافة علي عليه السلام بأنها لم تأتِ استجابة لرضا الناس: "أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك للَّه رضاً...". هذا النص لا يدلّ على أن البيعة تمنح الولاية الشرعية للأسباب التالية:
1- إن ولاية علي عليه السلام ثبتت بالنص الشرعي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يوم نصبه ولياً بأمر من اللَّه تعالى في واقعة الغدير المشهورة وأمر الناس بالتسليم عليه بامرة المؤمنين، وفي غير نص الغدير مما ملأ الخافقين، وإن أنكره المنكرون.
2- في الكتاب المتقدم كان علي عليه السلام في مقام الاحتجاج على منكري النص، ومنهم معاوية، فاعتمد أسلوب الاحتجاج المعروف (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)، وهم قبلوا خلافة الخلفاء الثلاثة ببيعة من بايعهم من المهاجرين والأنصار، وهذا يفرض عليهم قبول ذلك مع علي عليه السلام.
3- إن تخصيصه عليه السلام الشورى بالمهاجرين والأنصار يبتني أيضاً على ما التزموا به هم، وذكرها هنا له فائدتان:
الأولى: إخراج معاوية من دائرة أهل الحل والعقد أو الشورى، حيث أن ليس من المهاجرين فلا هجرة بعد الفتح، ولا من الأنصار كما هو معروف. وبالتالي فليس له أن يعترض حتى على منطقه هو.
الثانية: أن المهاجرين والأنصار عنوان ينطبق على جماعة محدودة معلومة، وهو غير قابل للتوسعة ولا للتعميم، وهؤلاء فيهم من لا يرضى للإمامة والخلافة بغير علي عليه السلام، مهما كانت الظروف ومهما بلغت العواقب، وهم معروفون، وعليه فلن يتحقق إجماع تام من المهاجرين والأنصار على غير علي عليه السلام الذي هو للَّه رضاً. فلا يمكن لنا أن نستخرج من هذا النص قاعدة للتعميم والتطبيق في غير هذا المورد.
ومثل هذا النص نصوص أخرى ورد فيها نسبة التولية إلى الناس، وقد أشرنا إليها وناقشنا دلالتها في كتاب "الشورى والبيعة ودورهما في انعقاد الإمامة الكبرى"، فهي لا تتنافى مع ثبوت الولاية بالنص، لأن تولية الأمر كما تطلق على جعل الولاية والتنصيب، كذلك تطلق على إعطاء الحق لأهله وتمكينه من القيام بالأمر. أما فيما يرتبط بولاية الفقيه في عصر الغيبة فالأمر لا يختلف، وإن جاء التعيين الشرعي عاماً، أي بالصفات وليس للأشخاص المحدّدة أسماؤهم، فالمهم أن الولاية أيضاً ثابتة بأصل الشرع للفقيه الحائز على شرائط الولاية (العالم العادل الورع الشجاع المدبّر...)، وعلى الأمة إذا عرفت فيه ذلك أن تبايعه وتمنحه قيادها، وتبذل طاعتها ونصرتها ليتمكن من التصدي والقيام بالأمر، وإعمال ولايته الشرعية، فيقيم بذلك حكومة العدل الإلهي وفق الشريعة المقدسة. وهذا الذي قدمناه يتناول شرعية الولاية ومنشأ الإلزام في أمر الولي ونهيه، وهو لا يمنع من إقامة أطرٍ للحكم وتشكيل مجالس تمكّن الناس من المشاركة في عملية الرقابة والتقنين واختيار بعض مستويات القوى التنفيذية، فهذا يدخل في أنحاء التدبير وإدارة البلاد والعباد، وهو يتيح فرصة الاستفادة من كل الطاقات والامكانات والخبرات، حتى في مجال سنّ القوانين ذات العلاقة بالشؤون الإدارية والتنظيمية شرط أن لا تخالف الشريعة. ومن الجدير بالذكر أن نتائج الانتخابات وما يقننه المجلس يأخذ شرعية من إمضاء الولي وليس العكس كما في الحكومات العلمانية التي تقوم على محورية الإنسان في مقابل محورية الباري عزَّ وجلَّ.
* كلمة أخيرة
هذه الرؤية التي قدمناها بين يدي قرائنا الأعزاء، لا تلغي بحال من الأحوال الدور الفاعل للأمة بكل أفرادها وبكل طاقاتها وإمكاناتها، بل تعوّل كثيراً على حضورها ومشاركتها، كما أن هذه الرؤية لا تسمح بانجرار الولاية إلى السلطة التحكمية كما قد يتوهم أو الدكتاتورية، فإن الشروط المطلوبة في الفقيه الولي يأتي على رأسها "التقوى"، وهي شروط يجب توفرها ابتداءً واستمراراً، والتقوى ملكة إذا تأصلت لا يزلزلها عَرَض دنيوي زائل مهما عظم ومهما بلغ، ولو فرضنا جدلاً زوالها فأساء الولي استخدام السلطة وخلد إلى مطامع الدنيا، فإن الولاية تزول عنه وتسقط، وهنا يأتي دور الخبراء الذين أئتمنهم الناس لتشخيص هذه الصفات ابتداءً، فعليهم تشخيص استمرارها والإعلان عن فقدانها إذا زالت.
إن مشكلة الكثير من المعاصرين أنهم يقيسون الأمور الدينية بموازين أهل الدنيا.