الشيخ فادي سعد
إن تأثر البلدان والشعوب المسلمة بالرياح الفاسدة التي
تهب من أمريكا وأوروبا وسائر أعداء الإسلام أمر لا يختلف فيه إثنان، وبذلك يشهد
الواقع، في غالب مساحته، حيث يعيش الإنسان ابتداءً من بيته وعائلته ومروراً بمكان
عمله ووصولاً إلى الأماكن العامة كالجامعات والمدارس والحدائق والشواطئ والشوارع
ووسائل النقل ويبقى البعض يحسب ذلك التأثر تقدماً وحضارة، وإن تلك الرياح الأجنبية
تسوق معها الخير والسعادة وهي طريق النجاح بينما الواقع أنها عواصف مدمّرة لا يأتي
منها إلا الفساد والهلاك.
وإذا أردت أن تعرف منشأ هذا التأثر السلبي والانغماس
والاستغراق في توابعه، والانجرار خلف شعاراته الزائفة فما عليك إلا أن ترقب أولئك
الواهمين في ابتعادهم عن الخالق سبحانه وتعالى، وهجرانهم لتعاليم الإسلام الحنيف
وتقليدهم الأعمى للغرب الهادف إلى تفككهم وانهيارهم، وكم هو مؤسف أن تدخل إلى
مجتمعات إسلامية في العنوان لكنها غير إسلامية في المعنون، ولا تقدر أن تفرّق بينها
وبين المجتمعات المادية الغارقة في سباتها والبعيدة تمام البعد عن الاستقامة ومنطق
الدين، إنك لا تكاد تمشي في شارع من شوارع المدن وخاصة العواصم إلا وتشعر بالغربة
وكأنك تسير في مدينة أوروبية لا تمت إلى العالم الإسلامي بصلة، فتشهد السفور
والتبرج والاختلاط والتملّل من الضوابط الشرعية، إلا في بعض الأماكن التي هدي أهلها
إلى الصراط المستقيم، وفي أحسن الأحوال ترى خليطاً بين مظهرين أحدهما يعبّر عن
الاتجاه السليم والآخر يعبّر عن الاتجاه السقيم، لكن العادات المستوردة من الغرب
والمفاهيم الفاسدة تبدو بصماتها واضحة في كثير من الميادين الحياتية.
والذي نريد
التحدث عنه، مسألة الاختلاط باعتبارها باتت لدى الكثيرين أمراً طبيعياً لا يتناهون
عنه بل الاستغراب على العكس من منعها، وهي واحدة من المقدّمات الممهّدة لنتائج غير
مرضية بل في غاية الخطورة على الصعيدين: الفردي والاجتماعي، وفي الجانبين: المادي
والمعنوي ومن الناحيتين: الدنيوية والأخروية.
ولذلك جاء موقف الإسلام ليشكّل حماية ذاتية من وقوع هذه الأخطار وضمانة واقية ينبغي
أن تدوم طالما التزم الإنسان المسلم بالخطوط الشرعية متبعاً ما فيه رضى اللَّه
سبحانه ومجتنباً ما فيه سخطه. وهنا سوف نتحدث عن أسباب الاختلاط، لا من الموقف
الفقهي منه ولا عن الآثار الروحية أو الاجتماعية. والبحث في أسباب الاختلاط يحظى
بأهمية عالية لا تقل عن البحث في الجوانب الأخرى، لأن علاج المشاكل عن طريق إزالة
أسبابها ودوافعها هو العلاج الحقيقي الدائم وأما رفع الآثار فما هو إلا محاولة غاية
ما تثمره راحة مؤقتة، ويعتبرها بعض الناس فاشلة لضرورة أن جذور المرض وأصوله ما
دامت لم تقتلع وأسبابه لم تنتهِ فإنه سيتجدّد حيناً بعد آخر وإن سكن الألم لفترات
محدودة. ولا يمكن العلاج ما دامت الأسباب مجهولة وغائبة، فلا بد من التعرّف عليها
أولاً ثم إيجاد السبيل للقضاء والتخلّص منها ثانياً.
* أسباب الاختلاط المحظور:
1 - تفلّت الكثير من المسلمين من مفاهيم الإسلام أدى إلى ابتعادهم عن أحكام
الشريعة، فترى جملة من الواجبات متروكة مهجورة، وجملة من المنهيات مرتكبة، وذلك
يفقد الإنسان الرادع عن الانصياع إلى الرغبة في بناء علاقة بين الجنسين محفوفة
بالشبهات والمخاطر وإن كانت في بدايتها ستحمل شعار الصداقة والتعارف، لكن سرعان ما
تتحول إلى أمور لا تحمد عقباها. بينما لو كان الطرفان تحت مظلّة الشريعة وأحكامها
لما كان هناك من فساد. يقول تعالى:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾(1).
وقال عزّ من قائل:
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا
يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(2).
2 - عدم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى درجة التأثير الذي يولّد
إحراجاً وشعوراً لدى المشجّع على الاختلاط بأنه يقوم بأمر عظيم فاضح ويدعو إلى سبيل
الشيطان. والتحذير من الاختلاط المحظور ينبغي أن يبلغ تمام مساحته الواسعة وما لها
من مدى، فقيام ثلّة قليلة كأئمة المساجد والمبلّغين بهذا الواجب سيظل غير كافٍ
لإيجاد مناخ عام لاستنكار هذه الظاهرة السيئة والتناهي عنها والإحساس بضررها
وخطرها، بل لا بد أن يقوم الوالدان بدورهما وكذلك الأقارب، والمعلّمون في المدارس
والجامعات وسائر المؤمنين والشرائح الاجتماعية وإلا سوف تكون العاقبة وخيمة جداً.
جاء في الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن
المنكر أو ليسلطنّ اللَّه عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم".
3 - الأنظمة الجائرة والحكّام الذين تربّوا على يد الاستكبار والاستعمار ونالوا
الدعم في الداخل والخارج، ليتجرأوا على نشر الكثير من المحرمات وإباحة بعض المفاسد
تحت حراسة القانون والقوة، وادّعاء الحرية، والتشجيع على تقليد الغرب في أكثر
العادات والتقاليد والتشبّه بأعداء الإسلام، ومن ذلك دعوتهم الدائمة إلى الاختلاط
السلبي وإظهاره بأنه ضرورة في حياة الرجل والمرأة العصريين. قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾(3).
وما من شك أن أغلب أحكام المسلمين وزعماءهم قد أطاعوا الكفّار في الظاهرة المذكورة
وغيرها أيضاً وأمروا شعوبهم أو أباحوا لهم ذلك، والمستقبل المنتظر هو انقلابهم
خاسرين كما صرّحت الآية الكريمة: ولقد وصف القرآن الكريم هذا النموذج من الناس في
قوله سبحانه:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا
تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾(4).
4 - سوء التربية والتوجيه والتعليم من جهة الآباء والأمهات داخل الأسرة، أو من جهة
المدرسة والجامعة، وتغييب المنهاج الديني من المناهج التعليمية، فكثير من المدارس
تربي الجيل الناشىء تربية بعيدة عن دينه، وأن الطالب المسلم يتخرّج من المدرسة
الثانوية ومن الجامعة ولا يعرف من معالم دينه إلا النزر القليل وبصورة مشوّهة، هذا
بالإضافة إلى ما أحدث في المدارس من اختلاط بين الطلاب والطالبات وما أحدث فيها من
نشاطات فاسدة كحفلات اللهو والرقص والغناء والرحلات وغير ذلك والتلامذة في سن
المراهقة، والفترة الحرجة الداعية إلى الاحتياط والانتباه.
5 - وسائل الدعاية والنشر من كتب ومجلات وجرائد وإذاعات وتلفزيون وبالأخص المحطات
الفضائية المستمرة للتشجيع على التبرج والاختلاط والابتذال والتحلّل، ولإقناع الناس
بأن هذه المفاسد مصالح، وهكذا يستعمل الإنسان حواسه ويشغلها بالمظاهر الفارغة لينسى
قضاياه الهامة المصيرية، وهذا هدف من أهداف الأعداء أن ننشغل عن جواهر الأمور
وحقائقها، ونبقى نسعى خلف الصغائر التافهة لنبقى في تخلف وانحطاط وتأخر، وها هي
الفضائيات العربية تحذو حذو الفضائيات الغربية في الدعوة إلى ذلك، بل في بعض
الأحيان بالغت أكثر منها وكانت أشدّ إصراراً على إفشاء الوباء ونشر السموم. وهل
ينتظر من كل أولئك المولعين بتلك الشاشات والملبّين لدعواتها رشاد أو يرتجى هدى؟!
6 - نظرة بعض الناس إلى الغرب على أنه المثل الأعلى، وتمكّن أغلال التبعية المختلفة
الوجوه وعلى رأسها التبعية الثقافية في نفوسهم والشعور بالضعف الدائم وهذا ما
تحدثنا عنه في بداية المقال، باعتباره من الأسباب الرئيسة الهامة.
7 - التخطيط من أعداء الإسلام عموماً ومن الصهيونية خصوصاً لنقل المجتمعات
الإسلامية من عالمها الإنساني الحافل بالقيم والأخلاق إلى عالم حيواني تحكمه
الرغبات والشهوات، لينتج الحرص على الحطام ولو كان حقيراً والرضى بالدون من العيش
ولو كان ذليلاً، والقعود عن طلب المعالي، والتخلف عن السعي لتحقيق الكرامة
الإنسانية والحفاظ عليها، والسلاح الأقوى في مقابل ما تقدم ذكره هو اليقظة والوعي
ومعرفة حقائق الأمور واتباع تعاليم الإسلام وأحكامه وقد اعتمدت الصهيونية العالمية
وسائل عديدة لبلوغ أهدافها وأهم هذه الوسائل:
أ - التشكيك في المعتقدات.
ب - الفساد الأخلاقي.
ج - استنزاف المال.
د - استعمال القوة.
إن ما ذكرناه من أسباب للاختلاط المحظور ليس على وجه الحصر بل هناك أسباب إضافية
لا يسع المقام لاستعراضها.
(1) سورة الروم، الآية: 41.
(2) سورة المائدة: الآيتان: 78 79.
(3) سورة آل عمران: الآية: 149.
(4) سورة البقرة، الآيتان: 204 205.