إن هذه الحادثة العظيمة أي عاشوراء، تستحق التأمل
والتدبّر من جهتين:
أغلب الأحيان يتم التأمل في إحدى هاتين الجهتين، أنا أريد أن أضع النقطة الثانية
مورداً للتأمل في جلستنا هذه، فعاشوراء، تحمل رسالات ودروساً، وتعلمنا بأنه يجب
التضحية لأجل حفظ الدين، وتلهمنا بأنه يجب التخلي عن كل شيء في سبيل القرآن. وتعطي
الدروس بأنه في ساحة الحرب بين الحق والباطل، يقف الصغير والكبير والمرأة والرجل،
الشيخ والشاب، الشريف والوضيع والإمام والرعية، يقفون سوياً وفي صف واحد...
وتعلمنا
بأن جبهة العدو، بكل قدراتها الظاهرية، قابلة لتلقي الكثير من الصدمات، كما تلقت
جبهة بني أُميّة الصدمات بواسطة قافلة أسرى عاشوراء في الكوفة والشام والمدينة، حيث
انتهت أخيراً بفناء الجبهة السفيانية. وتعطي أيضاً الدروس في مسألة الدفاع عن
الدين؛ البصيرة مثلاً هي أهم ما يلزم الإنسان. فمن ليس عنده بصيرة يُخدع، كما أنه
كان في جبهة ابن زياد، من لم يكن من الفاسقين والفجار، إنما كانوا ممن لا يملكون
البصيرة، هذه هي دروس عاشوراء. طبعاً هذه الدروس تكفي لإخراج شعب من الذلة إلى
العزة وهذه الدروس يمكنها أن تهزم جبهة الكفر والاستكبار وهي دروس تبني الحياة.
* عاشوراء هي ساحة عبر:
أما الجهة الثانية هي استسقاء العبر في عاشوراء، أي غير الدروس، عاشوراء هي ساحة
عبر، يجب على الإنسان أن ينظر إلى هذه الساحة كي يستلهم العبر، ما معنى أن يأخذ
العبر؟ يأخذ العبر أي أن يضع نفسه في تلك الحالة ويفهم، في أي جهة هو وأي وضع؟ وما
الذي يهدده؟ وما الذي يلزمه؟ فهذا ما نسميه بالعبرة. أي إذا مررتم بجادة ما،
وشاهدتم سيارة مقلوبة أو مصطدمة ومتضررة أو مدمرة، وركابها قد تحطموا، فإنكم تقفون
وتنظرون لتأخذوا العبر. وليتبين عندكم، أنه أيُّ سرعة وأية قيادة أدت إلى حدوث حالة
كهذه؟ فهذا أيضاً نوع آخر من الدروس، ولكنه درس عن طريقة أخذ العبر، دققوا بهذا
قليلاً.. العبرة الأولى في قضية عاشوراء والتي تجعلنا ننتبه لأنفسنا هي أن نرى ما
الذي حدث بعد خمسين عاماً من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، ليصل الأمر إلى ذلك
الحد، الذي يُضطر فيه شخص كالإمام الحسين أن يقوم بتضحية كهذه؟
حسناً، قد نجد من
التضحيات الإسلامية، أحياناً بعد مضي ألف عام على صدر الإسلام، وأحياناً تكون في
قلب البلدان والشعوب المخالفة والمعاندة للإسلام، فهذا كلام آخر، ولكن أن يلاقي
الحسين بن علي عليه السلام في مركز الإسلام وفي مكة والمدينة ومركز الوحي
النبوي وضعاً بحيث لا يجد سبيلاً للإصلاح، إلا سبيل التضحية وتضحية دموية وعظيمة
كهذه؟!... ما هو الوضع الذي جعل الإمام الحسين يشعر بأن الإسلام لا يحيا إلا بتضحية
كهذه وإلا سيزول؟ فالعبرة هنا هي أن ننظر ما الذي حدث في المجتمع الإسلامي في مكة
والمدينة التي كان الرسول يعقد الرايات فيها ويعطيها للمسلمين، وكانوا يذهبون
انطلاقاً منها إلى أقصى نقاط جزيرة العرب، وإلى حدود الشام، وكانوا يتحدون
إمبراطورية الروم، ويخيفون جيشها ويعودون منتصرين مثلما حدث في غزوة تبوك.
ما الذي حدث حتى يصبح المجتمع هذا نفسه والذي كان صوت تلاوة القرآن مرتفعاً في
مساجده وأحيائه، وشخص كالرسول يتلو آيات اللَّه على الناس بذلك الصوت واللحن
والنفس.. ويعظ الناس ويمضي بهم بتلك السرعة في صراط الهداية... ما الذي حدث حتى
يصبح هذا المجتمع نفسه، وهذا البلد وهذه المدن نفسها مبعث الخطر على الإسلام، بحيث
يحكم الناس فيها شخص مثل يزيد، ويأتي وضع يرى به شخص كالحسين بن علي عليه السلام أن
لا سبيل أمامه سوى القيام بهذه التضحية العظيمة والتي لا نظير لها في التاريخ؟ ما
الذي حدث حتى وصلوا إلى هذه الحالة؟ هذه هي العبرة. نحن يجب أن نضع هذا في مورد
انتباهنا الدقيق، نحن اليوم مجتمع إسلامي، وعلينا أن ننظر ما هو الداء (العفن) الذي
أصاب ذلك المجتمع الإسلامي حتى انتهى الأمر إلى يزيد، ما الذي حدث بعد عشرين عاماً
من استشهاد أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام حتى ترفع رؤوس أبناء أمير المؤمنين
على رؤوس الرماح ويُطاف بها في تلك المدينة؟
فالكوفة لم تكن مدينة غريبة عن الدين،
إنما الكوفة هي نفس ذلك المكان الذي كان يمشي أمير المؤمنين عليه السلام في أسواقها
يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان نداء تلاوة القرآن في أناء الليل
وأطراف النهار متصاعداً من ذلك المسجد وتلك المحافل، هذه المدينة نفسها، هي التي
طوّفوا فيها وفي أسواقها بنات أمير المؤمنين عليه السلام وحرمه وهم أسرى، خلال
عشرين عاماً فقط تكوّن هذا الوضع، ما الذي حدث حتى وصل الأمر إلى هذا الحد؟ إذا كان
هناك داء يمكنه خلال عدة عقود من الزمن أن يوصل مجتمعاً كان على رأسه أشخاص كرسول
اللَّه صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك الوضع، إذاً هذا
الداء داء خطير، نحن أيضاً يجب أن نخاف من ذلك المرض! كان إمامنا المعظَّم، يعتبر
نفسه تلميذاً من تلامذة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ويشمخ برأسه إلى عنان
السماء، إنما افتخار الإمام كان لأنه يُدرك أحكام الرسول والعمل بها وتبليغها.
* أين إمامنا وأين الرسول صلى الله عليه وآله؟
ذاك المجتمع الذي بناه الرسول بعد عدة سنوات ابتلي من بعده بهذا الوضع الصعب. على
مجتمعنا أن يكون حذراً جداً من أن يُبتلى بذلك الداء، العبرة هنا... وهي أن نعرف
ذلك المرض ونعتبره خطراً كبيراً، ونتجنبه. ما هو البلاء الذي أصاب المجتمع كي يؤتى
برأس الحسين عليه السلام ويدار به في الكوفة. الكلام في هذا المجال كثير، أنا سأطرح
هنا آية من آيات القرآن التي تجيب على هذا السؤال، فالقرآن قد أجابنا، والقرآن يكشف
عن هذا الألم للمسلمين، تلك الآية هي:
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.
هناك سببان أساسيان لهذا الضلال والانحراف العام، الأول هو الابتعاد عن ذكر اللَّه
ونسيان ما هو من عند اللَّه، هذا السبب الأول أما الثاني "اتبعوا الشهوات" السعي
وراء الشهوات واتباع الهوى وفي عبارة أخرى حب الدنيا والتفكير بجمع الثروات والمال
والتلذذ بشهوات الدنيا والوقوع فيها واعتبار هؤلاء أن الدنيا والوقوع فيها هو
الأساس. إن نسيان العقيدة هو الألم الأساسي والكبير، نحن أيضاً يمكن أن نبتلى بهذا
الألم، فإذا ذهبت حالة المواظبة على العقائد الإسلامية في المجتمع الإسلامي أو
ضعفت... أصبح كل واحد يفكر كيف ينجو بنفسه من المعركة وعندما نتعود مجاراة الآخرين
في اللهاث وراء الدنيا، وعندما نعطي الترجيح لنفوسنا ولمصالحنا فوق مصالح المجتمع،
فإن الوضع سيجرنا إلى هذا المستوى، والهمة الطويلة وممارسة الشعائر وإحيائها
والاهتمام بها يولد النظام الإسلامي ويحفظ ويُحرز مزيداً من التقدم. أما التقليل من
أهمية الشعائر ودورها، وعدم الاهتمام بأصول الإسلام والثورة، وطرح كل شيء وفق
الحسابات المادية، وفهمه على ذلك النحو، بديهي أنه سيجر المجتمع إلى تلك الجهة، حتى
تصل إلى وضع كهذا، فهم قد ابتلوا بوضع كهذا.
يوماً ما كانت مسألة تطور الإسلام
مطروحة عند المسلمين، ومسألة رضى اللَّه وتعليم الدين والمعارف الإسلامية مطروحة،
ومسألة التعرف على القرآن ومفاهيمه ومعارفه كانت مطروحة أيضاً، وجهاز الحكم وجهاز
إدارة البلد كان جهاز الزهد والتقوى وعدم الاعتناء بزخارف الدنيا والشهوات الشخصية،
وكانت النتيجة في تلك الخطوة العظيمة التي خطاها الناس نحو اللَّه وفي وضع كهذا، إن
شخصاً كعلي بن أبي طالب عليه السلام يصبح خليفة، وكالحسين بن علي يصبح شخصية
بارزة، الموازين تكمن هنا أكثر من أي زمن آخر، فعندما يكون اللَّه هو المعيار
والتقوى وعدم الاعتناء بالدنيا والمجاهدة في سبيل اللَّه، الناس الذين يحملون هذه
الموازين يأتون إلى ساحة العمل، وهؤلاء يأخذون زمام الأعمال، فالمجتمع يصبح
بالضرورة مجتمعاً إسلامياً...
ولكن عندما تتغير الموازين الإلهية، كل من لديه حب أكثر للدنيا، والأكثر اتباعاً
للشهوات، والأكثر حنكة في كسب مصالحه الشخصية، والأكثر تلفيقاً في لغة الصدق
والحقيقة، يأتي لتولي الأعمال، وبالتالي أمثال عمر بن سعد، وشمر، وعبيد اللَّه بن
زياد يصبحون الرؤساء، وأمثال الحسين بن علي عليه السلام يُذهب بهم إلى المذبح
ويقتلون شهداء في كربلاء، وتصبح هذه المعادلة هي الصواب. ينبغي على المخلصين أن لا
يسمحوا بتغيير القيم والموازين الإلهية في المجتمع، فإذا تغير معيار التقوى في
المجتمع، يُصبح إنسان تقي كالحسين بن علي مهدور الدم، إن كانت الحنكة والتسلط
والتحكم بأمور العالم والدسيسة والاحتيال والكذب وعدم الاعتناء بالقيم الإسلامية
أصبحت ملاكاً، طبعاً فإن شخصاً ك"يزيد" سيتولى زمام الأمور، وشخصاً كعبيد اللَّه بن
زياد سيصبح الرجل الأول في العراق، كل هدف رجال الإسلام يصبح تغيير هذه الموازين
والمعايير، وكل هدف ثورتنا سيكون الوقوف بوجه المعايير الباطلة والمادية الخاطئة في
العالم وتغييرها. عالم اليوم هو عالم الكذب، عالم القوة، عالم الشهوات، عالم ترجيح
القيم المادية على القيم المعنوية، هذا عالم اليوم، وهذا ليس في عالم اليوم فقط، بل
منذ قرون، والقيم المعنوية في العالم تتجه نحو الزوال ونحو الضعف، فقد سُعي
لإزالتها من الوجود ليحُلّ محلها أصحاب القدرات وعباد المال والرأسماليون. فقد
أوجدوا نظاماً ورتّبوا بساطاً مادياً في العالم وعلى رأسه قوة كأمريكا، والتي هي
أكثر كذباً من الجميع وأكثر خداعاً وأكثر من لا يعنى بالفضائل الإنسانية والأكثر
قسوة تجاه البشرية.
هذا هو وضع الدنيا، الثورة الإسلامية تعني إعادة الروح إلى الإسلام الحقيقي،
وإحياء
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾،
هذه الثورة انبثقت على الساحة العالمية لتحطم الحسابات العالمية الخاطئة، وهذا
التنظيم، والاعتبارات العالمية الخاطئة وتنظيم حسابات جديدة، ففي إطار تلك الحسابات
المادية الخاطئة بديهي أن يكون أشخاص متبعين للشهوات، فاسدين، ضالين، من أمثال محمد
رضا (الشاه) على رأس السلطة وأن يكون شخص فاضل طاهر نيِّر كالإمام في السجون أو
المنفى، ففي مثل تلك الحالة لن يكون للإمام مكان في المجتمع، فعندما يحكم الظلم
والعنجهية والفساد والكذب واللافضيلة، لا يمكن لشخص يتسم بالفضيلة والصدق والنور
والعرفان إلا أن يكون في السجون أو في المذابح وساحات القتل. وعندما يأتي رجل
كالإمام إلى سدة الحكم، يعني ذلك أن صفحة سوداء طويت، وأخرى بيضاء فتحت، وحب
الشهوات يذهب إلى العزلة، وهذا يعني أن التعلق بالدنيا والتبعية والفساد ولّى،
وحل مكانه الزهد والتقوى والخلوص والصفاء والجهاد والرأفة والإخلاص تجاه الناس،
والرحمة والمروءة والأخوّة والتضحية والإيثار. فعندما يتسلم الإمام الزمام تحل هذه
الخصال والقيم، وهذه الفضائل، وهذه القيم تصبح مطروحة.