نلا الزين
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق".
وقال شوقي:
"وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"
من هنا فإن الأمور التي تربط المجتمع بعضه ببعض على أحسن
الوجوه والأحوال هي الروابط والعلاقات القائمة على الأخلاق واللياقات الحياتية
المتنوعة، ما يؤدي إلى المودة بين الناس والاحترام المتبادل وسعادة أطراف المجتمع
كافة، وهذا ما يرضي الروح الإنسانية، وكما قيل: "إنَّ حياتنا كمنطقة جبلية، كلما
نادى فيها الإنسان سمع صدى صوته" فصوتنا أو نداؤنا هو ما يجول في قلوبنا وعقولنا من
عواطف وأفكار وما يترجم سلوكاً يتجاوز الذات ليصل إلى المساحة الأخرى من بقية
الذوات. حديثنا يتناول بعض الأخلاقيات واللياقات الاجتماعية التي تسهم في رسم صورة
نيرة ناصعة السمات وتحكي بين مكنونها بعض المفاهيم التي نأخذها من إسلامنا العزيز.
* إطلالة على مبادئ السلوك:
في كل مجتمع من المجتمعات، تشكل مبادىء السلوك قاعدة انتظام وحياة، احتراماً للغير
واحتراماً للذات، تنطلق من الفضائل، وتحمل الفرد على تحسين علاقاته بمن حوله. إنَّ
من أكبر عوامل تقدم الإسلام كما عبَّر القرآنُ الكريم، حُسن الأخلاق عند الرسول صلى
الله عليه وآله وتصرفاته المحببة ولياقاته مع كل فرد صغيراً كان أم كبيراً، مؤمناً
أم فاسقاً أم كافراً،
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
﴾ (آل عمران) وكانت تتجلى في سيماء الرسول صلى الله عليه وآله
محبة عميقة للناس، فكان يعم الناس باللطف والعناية ويقسم لحظاته بين أصحابه، ينظر
إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية. إنَّ أحسن الأمور ما تمَّ بالأدب والاحترام والمحبة
واللياقة، وهذا يوجب السعادة. وقد جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله "يا
بني عبد المطلب إنَّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فألقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر".
إنها آداب سلوك تنظم أصول التعامل بين فرد وآخر ولأهميتها ورد فيها الكثير الكثير
من الأحاديث والحكم والقصص، فالغنى كلُّه موجود في مفاهيمنا حتى لو استخدم البعض
مفرداتٍ بعيدة عن ما يوحي إلى ظاهرها، إنَّما تلتقي معها في الهدف، نسمع كلمة
Etiquette. (اتيكيت)، دلالة على بعض اللياقات والآداب الاجتماعية بين الناس على
صعيد المعاملة والتواصل بينهم، وعبَّر عنها الفرنسيون بكلمة Savoir-vivre كآداب
للحياة.
* دائرة اللياقات والآداب الاجتماعية:
إنَّ دائرة اللياقات والآداب الاجتماعية تنطلق من الدائرة الصغيرة، العائلة
والأرحام، إلى الدوائر الكبيرة الجيران والأصدقاء والعمل والشارع وعموم الناس. وهذه
الدائرة لها أثر كبير في الدعوة إلى اللَّه تعالى، وجذب الناس إلى الدين،
واستجابتهم إلى ما يمثل الأشخاص الذين يتصرفون وفقاً لهذه القواعد السلوكية
والأخلاقية، التي نستقيها من القدوة والأسوة الحسنة الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله الذي طبقها في أعلى معانيها وأرقاها حتى خاطبه اللَّه تعالى:﴿وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
فالتطبيق العملي لهذه المبادئ والعلاقات، ترشد من يريد أن يستفيد منها ويجعل منها
قاعدة لحياته للارتفاع بالحياة اليومية إلى مستوى مثالي من حسن التصرف مع الذات
والغير، لأنَّها تدخل في حياة كل إنسان، وهي بستان متنوع الأشكال والألوان عابق
بشذا زنبقاته وأزهاره.
* لياقات وآداب متفرقة:
باللياقة والتهذيب والأخلاق، وحسن التصرف نتغلغل أكثر إلى كل قلب ونقيم العلاقات
الإنسانية السعيدة.
1 - التحية:
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا﴾
فالتحية رمزٌ وعنوان ومفتاح للحديث، وما من قوم إلاَّ ولهم تحية تخصُّهم، تتضمن
معنى معيناً تسالموا عليه واتفقوا على محتواه، والإسلام له تحيته الخاصة التي ترمز
إلى أعمق المعاني، إنها كلمة "السلام عليكم" وإلقاءها يزرع الحب ويلقي بظلال الرحمة،
وهي تحية أهل الجنة، ويستحب المبادرة بالتحية والسلام، ولا ننتظر أن يسلم علينا
الآخرون، فالابتداء بالسلام أفضل، وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام "من
التواضع أن تسلِّم على مَنْ لقيت". وجاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: خمس لا
أدعهن حتى الممات وعدَّ منهنّ "التسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي".
وهناك بعض الآداب واللياقات في موضوع التحية منها: كما جاء عن الإمام الصادق عليه
السلام: "ليسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير". وهناك
بعض اللياقات التي تتبع في القاء التحية من خلال النظر إلى الشخص والابتسامة في
وجهه.
2 - المحادثة:
هي ميزة من ميزات الإنسان، أساسها الاحترام المتبادل وايصال الآراء والأفكار. ومن
اللياقات الخاصة بها: الحفاظ على نبرة الصوت، فكلَّما علت ثقافة إنسانٍ ازداد صوته
انخفاضاً طبعاً هذا في الحالات العادية التي لا تحتاج إلى علوِ صوتٍ تقتضيه حكمة
الموقف والظروف . ولتكن معتدلة متناسقة، وليس أجمل من الصواب، فالحق وحده يعلو ولا
يُعلى عليه، والأفضل استعمال التعابير الجميلة والمفيدة والمختصة بمضمون المحادثة
وظروفها، والابتعاد عن ألفاظ قد يفهمها الآخر مسيئة له أو غير مناسبة. وإذا
استودعنا أحدٌ سرَّاً لا بد من أن يبقى طي الكتمان. ومهما علت ثقافتنا لا نتعالى
على غيرنا في الحديث معه. مع الابتعاد عن كلمة "الأنا" والتكلم عن النفس. وعدم
احتكار الحديث أو الاسترسال في موضوع ممل. حسن الاستماع للآخر كما نحب أن يستمع
إلينا. وقيل حكمة "منحنا اللَّه أذنين اثنتين ولساناً واحداً لكي نتمكن من الإصغاء
أكثر والتكلم أقل. ولا ننسى الآية القرآنية التي تتحدث عن حديث الرسول صلى الله
عليه وآله مع الناس ودعوتهم للإيمان
﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
والأحسن هنا تتسع لتطال كلَّ حديث وكلام.
3 - لياقات مع المسنين:
جاء في الحديث "ليس مِنَّا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا". قيل حكمة: ضع سمعك
وبصرك في خدمة من فقد السَّمع والبصر، وهناك أشخاص فقدوا الكثير من قواهم وطاقاتهم
وممتلكاتهم المادية هؤلاء يحتاجون أن نعاملهم بالحسنى التزاماً بأمر اللَّه تعالى
أولاً، ومعرفة منا بأنَّا سنصل ربما يوماً إلى هذه المرحلة،
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس﴾.
وإن نفتح صدرنا لأخبارهم وحكاياتهم لما فيها من العبر والدروس. أن نقدم لهم العون
دون أن يسألونا ذلك، حتى لا نشعرهم بالحرج أو المضايقة النفسية لهم. أن لا نرفع
صوتنا على أصواتهم فهم الكبار سناً وتجربة واحتراماً.
4 - الهدايا:
جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "تهادوا تحابوا" هناك أشخاص نحب أن
نهديهم في بعض الظروف الخاصة كالفرح، المرض، العودة من الحج، النجاح، العمل... إلى
آخره من العناوين، ولا نجد ما يمكننا أن نقدمه إليهم نظراً للصعوبات المادية التي
يعاني منها أكثر الناس، لا بد من مراعاة أمر. أن لا تتحول الهدية إلى عبء علينا
مادياً. كما ينبغي المحافظة على الهدية قدر الاستطاعة لذلك فهي تبقى عنوان محبة
وتواصل وألفة. أن لا يراها الذي أهدانا إياها بيد أحدٍ آخر، بينما يحب أن يراها
بحوزتنا. اغتنام الفرصة لتقديم هدية مناسبة معنوياً أكثر منها مادياً، فقد تكون
هدية صغيرة الحجم قليلة الثمن. إنما يجدها الشخص شيئاً عزيزاً لما تمثله له من حسن
اختيار لشيء يحبه. اختيار أنواع من الورود الجميلة لأنها تدخل السرور على القلب
وتسر العين والأنف معاً، أو إنتقاء بعض الشتول الخضراء التي تبقى مع الوقت رمزاً
جميلاً. الحرص على تقديم بعض الهدايا الرمزية إذا لم تكن مادية للأسرة والأحبة في
بعض المناسبات والأعياد وهذا يدخل السرور عليهم.
5 - في أمكنة التجمع:
سواء كانت أماكن عامة، أو أماكن عبادية. ينبغي أن نحافظ على روحية التعامل مع
الآخرين الذين يشاركوننا هذا المكان في هذا الوقت بالذات. أن نحرص على عدم التهافت
على الأماكن الأمامية بشكل يؤذي الآخرين أو يمنعهم من الجلوس. أن نساعد الكبار
عندما نتواجد في الأماكن العامة للمرور أو الجلوس. أن نحافظ على كلماتنا، نبرة
أصواتنا وبشاشة الوجوه. ولا ننسى أنَّ الأماكن العامة هي التي تحتاج منا إلى حسن
اللياقات والمعاملات. وأن نقدم الصورة الحسنة التي تضيء سبل التعرف على مفاهيمنا
وقيمنا وأخلاقياتنا.
6 - الزيارات:
للزيارة أصول من أوقاتٍ ومواعيد ولياقات وعلاقات يسودها الارتياح. قيل: "من لا
يبعث السرور بمجيئه يبعث السرور لدى مغادرته". الزيارات تتنوع بين ما هو عائلي،
وما هو اجتماعي، ولها أهمية، وهناك حث على التواصل والتزاور لتثبيت دعائم الترابط
الأسري والأخوة بين الأرحام، أو بين أفراد المجتمع، لنكون كالجسد الواحد إذا اشتكى
منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمى. كما ورد في الحديث. ولكن لا بدَّ
من مراعاة الأوقات وأخذ المواعيد للتأكد من وجود من نريد أن نزورهم، وعدم الإطالة
أكثر من اللازم، والاستئذان قبل الدخول كما ورد في الآية القرآنية:
﴿ لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾.
وحسن الضيافة، على المقتر قدرة وعلى الموسع قدرة أمر مهم في هذا الموضوع. وقال رسول
اللَّه صلى الله عليه وآله: "ابدأوا بالسلام قبل الكلام". ويستحب لصاحب البيت أن
يبادر لملاقاة الزائر قريباً كان أم صديقاً أم بعيداً، اهتماماً بالزائر واحتراماً
له وشكراً له على زيارته. وقد جاء عن الإمام الباقر عليه السلام: "أيما مؤمن خرج
إلى أخيه يزوره عارفاً بحقِّه كتب اللَّه له بكل خطوة حسنة، ومُحيت عنه سيئة،
ورُفعت له درجة، فإذا طرق الباب فتحت له أبوابُ السماء فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا،
أقبل اللَّه عليهما ثم باهى بهما الملائكة...". فإذا استقر المجلس بأهله والزوار
استحب للإنسان أن يقسِّم لحظاته بين أصحابه وأهل الدار الذين يزورهم. إذا كان
اللقاء لا يتضمن أكثر من ثلاثة فمن الآداب الإسلامية أن لا ينفرد إثنان منهما بحديث
سرّي، لئلاَّ يدخل الظن إلى نفس الآخرين. وإذا كان الشخص في مجلس زيارة وأراد
الانصراف عليه أن يودِّع من زارهم بطريقة جميلة ومناسبة وبتحية الإسلام.
7 - الطريق وآدابه:
الطرق مما يشترك فيها الناس، ومنافعها للناس جميعاً وقد رسم لها الإسلام آداباً
وأخلاقيات معينة. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "من بنى على ظهر طريقٍ مأوى
عابر سبيل بعثه اللَّه يوم القيامة على نجيب من در وجوهر ووجهه يضيء لأهل الجمع
نوراً". ومن الآداب الرائعة أن الماشي في الطريق ينبغي عليه أن يجتنب كلَّ فعل
ينافي الحشمة والأدب، ولذا يكره الأكل في الشوارع. ومن الآداب الإسلامية العالية أن
المستطرق إذا وجد شيئاً في طريق المارة يؤذيهم أو يعثرهم، أزاحه من طريقهم ورفعه
عنهم وقد كتب اللَّه لمن فعل ذلك أجراً عظيماً ومغفرة. وفي هذا المجال قال رسول
اللَّه صلى الله عليه وآله: "مرَّ عيسى بن مريم عليه السلام بقبر يعذب صاحبه، ثم
مرَّ به من قابل فإذا هو ليس يعذّب، فقال يا رب مررتُ بهذا القبر وهو يعذب ومررت به
مرة ثانية وهو ليس يعذب، فأوحى اللَّه جلَّ جلاله إليه يا روح اللَّه قد أدرك له
ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فغفرت له بما عمل ابنه".
أخيراً:
الآداب اللياقات الأخلاق، مهما تنوعت المفردات تعبّر عن قيمة الذات وقيمها وهي كنوز
في رصيد تصرفاتنا وصحائف أعمالنا، وهنيئاً لمن هدي إلى الطيب من القول والفعل
والسلوك والآداب.
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ
﴾.