﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
(آل عمران: 159). هذه الآية المباركة ترسم لنا مسار خُلُق الرسول صلى الله عليه
وآله على امتداد لحظات وأيام عمره الشريف، وقد اقترنت الرحمة في قلبه الشريف مع
الخلق العظيم
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
﴾ (القلم: 4).
ترى أين نحن من الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وآله على
مستوى علاقاتنا الاجتماعية وأخلاقياتنا الإيمانية والسلوكية وهل نشكّل مصداقاً لقول
اللَّه تعالى
﴿لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
(الأحزاب: 21). للأسف في بعض الحالات وعندما نتطلع إلى مجتمعنا وما ينجم عن تعاطي
الناس مع بعضهم البعض نجد أنَّ هناك معركة حامية الوطيس في الكلام والسلوك
والعلاقات في حين نجد آخرين يسلكون سبيل الحكمة واللياقات الإيمانية والإجتماعية
ويتجنبون طريق الغلظة التي تؤدي إلى انفضاض الناس من حولنا كما أوضحت الآية
المباركة.
* عناوين في دائرة الأخلاق واللياقات:
عندما نطل على دائرة الخلق الحسن واللياقات المهمة والأخلاقية نجدها واحة خضراء من
الأزهار والثِّمار والورود التي تزين ساحة مالكها. وهنا نفرد بعض الصفحات لتستوعب
جزءاً من هذه الواحة ونبدأ مع مقتطفات من وصية لأمير المؤمنين عليه السلام يصف فيها
أهل التقى والخلق والورع "منطقهم الصواب ملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع".
* المنطق الصواب:
والحديث عن المنطق له دلالة لكون الكلام يرافق الإنسان دائماً ويشكل جسراً لفهم
الآخرين والتواصل معهم وإيصال ما لدينا من أفكار ومواقف وعواطف وغير ذلك من
العناوين وهنا نستحضر حديثاً عن أهمية اللسان: "وهل يكب الناس على وجوههم يوم
القيامة إلاَّ حصائد ألسنتهم". وفي قول آخر: لسانك حصانك إنْ صنته صانك وإن
خنته خانك المنطق الصواب، عبادة في حدَّ ذاته والتزامٌ بما أمر اللَّه تعالى به من
الصدق والابتعاد عن الكذب والكلام الذي يؤدي إلى أذية الآخرين أو غيبتهم أو البهتان
عليهم وفي الحديث جاء: لسان المؤمن وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه هذا يدل على
ضرورة التفكر بالكلام قبل التلفظ به لكي لا يصبح المرء أسيراً لمنطقه الذي لم يتدبر
به مسبقاً. وهذه الطاعة الكلامية والمنطقية وهذا الخلق الضروري يجعل الإنسان من أهل
الثقة في مجتمعه ومن الذين يكونون زيناً على الدين وعلى المؤمنين ويدخل في هذا
النطاق الكلم الطيب وقد شبَّه اللَّه تعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة:
﴿مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾
(إبراهيم: 24). هؤلاء إذن من أهل التقوى الذين قال عنهم أمير المؤمنين عليه
السلام منطقهم الصواب.
* الملبس الاقتصاد:
والاقتصاد هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط والمعنى أنَّ الإنسان الذي يتصف
بصفة الملبس الاقتصاد لثوبه الذي يظهر به أمام الناس أي لا يلحق بدرجة المترفين
المسرفين ولا بأهل ألدناءة. والملبس له دلالة على وضع الإنسان، وذوقه، وآلية تفكيره
فهو الذي يظهر به أمام الناس فينبغي أن يكون ملائماً للزمن الذي يعيش فيه ضمن
الحدود والضوابط الشرعية وفي الوقت ذاته ينبغي أن لا يكون لباس أهل الترف والإسراف
لأنَّ المجتمع يحوي فئات عديدة ربما يكون أغلبها من أهل الحاجة والفاقة وهؤلاء لهم
حق على بقية الفئات الغنية والتي تمتلك سعة في الحال والرزق وهؤلاء ينبغي أن نحافظ
على شعورهم لكي لا يزدادوا نقمة على من حولهم. كذلك ينبغي عدم ترك اللباس الجيد
والمحترم بين الناس وقد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه كان يتزين
لأصحابه ويرتدي الجميل من اللباس حتى لو لم يكن ذا قيمة مالية كبيرة لكنه يريح
الناظر ويعجبه. وقد جاء في الآية القرآنية المباركة:
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
﴾ (الأعراف: 32). فالملبس الاقتصاد زينة المتقين ولباسهم.
* مشي التواضع:
هذه صفة من صفات المتقين كما جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام. "مشيهم
التواضع" وهذا أمر كما أنه معبر عن مكنون صدر الإنسان له إطلالة على الناس. وقد
يُميَّز إنسان عن إنسان من خلال مشيه بين الناس وقد ينفر الناس من الذين يمشون في
الأرض مرحاً ويختالون بينما الذين يمشون مشية تواضع للَّه واحترام للناس هم الأقرب
إليهم وإلى محبتهم واحترامهم أيضاً وقد جاء في الآية القرآنية المباركة في سورة
لقمان:
﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.
وقد جاء في سورة الإسراء:
﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ
تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾.
لذا كان النهي عن مشي المتكبرين، والحث على المشي بلين ورفق وتواضع للناس الذين
نعيش في محيطهم وبينهم فلماذا يكون التكبر؟ لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله
والأئمة الأطهار عليهم السلام مثال التواضع في مشيتهم وقد ورد عن رسول صلى الله
عليه وآله أنه "إذا مشي كأنما يخط من صبب وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف
نظره إلى الأرض أطولُ من نظره إلى السماء ويبدر من لقيه بالسلام". فالقصد في
المشي كما جاء في وصية لقمان عليه السلام لابنه "واقصد في مشيك" دلالة على
التواضع بين يدي اللَّه تعالى وأمام الناس وهذا من أخلاق المؤمن المقتدي برسول
اللَّه صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام.
* مكارم الأخلاق
ومن الأخلاق التي حثَّ عليها الإسلام أيضاً لانعكاسه على الإنسان والناس من حوله
الحِلْم: فالحِلْم يجعل الإنسان متعقلاً للأمور، وبالتالي فهو يأخذ بركنٍ أساسي من
أركان العلم فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بالحلم فإنه ركن
العلم". وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام اعتبر فيه الحِلْمَ كمالَ
العلم: "كمال العلم الحِلْم، وكمال الحِلْم كثره الاحتمال والكظم". وفي
تفسير لمعنى الحلم يجيب الإمام الحسن بن علي عليهما السلام "الحلم: كظم الغيظ
وملك النفس". فعندما يمتلك الإنسانُ نفسه، فإنه يدرس الأمور بحكمة وإدراك ولا
يتكلم إلاَّ بما يرضي اللَّه تعالى ويحقق الفائدة له ولمن حوله من خلال عدم التهور
والحُكْم على الأمور بالبينة والحكمة، والحليم أيضاً يمتاز بالعفو عند القدرة وهذا
يجعله أقرب إلى الناس وإلى احترامهم ومحبتهم.
وقد اتصف اللَّه بهذه الصفة العظيمة
وفي أكثر من آية وردت صفة الحليم: في سورة المائدة
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾. وفي سورة البقرة
﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ وفي سورة التغابن
﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾
وفي سورة النساء
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾.
والحِلْم لا يأتي عن ضعف بل عن قوة وإرادة. وقد سئل الإمام علي عليه السلام عن أقوى
الخلق فقال عليه السلام "أقوى الخلق الحليم". والحلم توأم الأناة تنتجهما
علو الهمة عند الإنسان ومن ثماره: "من حَلُمَ ساد"، و"كفى بالحلم ناصراً".
و"الحلم يطفىء نار الغضب". فالسيادة والنصرة وإطفاء نار الغضب نتائج مهمة
يحتاجها الفرد ليعيش ثقة أكبر بنفسه ومحيطه وليستشعر محبة الناس واحترامهم ويقوى
على أهواء النفس وسوء الغضب والتهور في الكلام والمواقف والسلوك.
* أدب المجالسة:
في كلَّ يوم يمر على المرء، هناك جلسة أو مجالسة لأحدهم أو لأكثر من شخص وجليس، وفي
المجالس هناك قواعد وآداب، من رعاها فاز بحسن المجالسة وطيب المخالطة والذكر الجميل
عند من يجالسهم. وعندما سأل الحواريون النبي عيسى عليه السلام: يا روح اللَّه من
نجالس؟ أجاب عليه السلام: "جالسوا من يذكركم اللَّه رؤيتُه، ويزيد في علمكم
منطقُه ويرغبّكم في الآخرة عملُه".
ومن حقِّ الجليس، أن تليِّن له جانبك وتنصفه
في مجارة اللفظ ولا تقوم من مجلسك إلا بإذنه، وأن تنسى زلاّته، وتحفظ خيراته ولا
تسمعه إلاَّ خيراً. وهذه من آداب المجالسة التي تترك الأثر الحسن وتعطي صورة جميلة
عن الجليس وتراعي اللياقات المطلوبة في مثل هذا الموضوع. وقد ورد الحث على مجالسة
أصناف معينة من الناس للاستفادة والاقتداء الجيد بأهل الخير والعلم من أهل المجالس.
فقد جاء عن الإمام علي عليه السلام: "جالس الحلماء تزدد حلماً". و"جالس
العلماء يزدد علمك ويحسن أدبك وتزكُ نفسك". وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله:
"جالس الأبرار فإنك إن فعلت خيراً حمدوك وإنْ أخطأت لا يعنفوك". وعنه أيضاً
صلى الله عليه وآله: "لا تجلسوا إلا عند كلِّ عالم يدعوكم من خمس إلى خمس: من
الشّك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الرهبة ومن الكبر إلى
التواضع ومن الغش إلى النصيحة".
هذه بعض آداب وأخلاق ولياقات تزخر بها واحة
الإسلام العزيز، وطوبى لمن يقرن القولَ بالفعل ويعمل للباقيات الصالحات.