موسى حسين صفوان
حيثما وجد الإنسان، كانت الموسيقى لوناً من ألوان الفنون
التي تعبر عن مضمون الأفراد والمجتمعات الحضاري، وخير معبر عن أحاسيس ومشاعر الشعوب،
حتى بات لكل شعب لحنه وترنيمته وتراثه الفلكلوري الذي يعرف به.
وكان الشرق مركز
الحضارات ومنه انتشرت الموسيقى من أرض بابل ومصر إلى كافة أرجاء العالم القديم، إلى
مقدونيا، وروما وغيرها... وفي الحضارات القديمة كانت الموسيقى وسيلة رئيسية للطقوس
العبادية، ولنشر التعاليم والنواميس التشريعية حتى أنه يروى إذا صح النقل أن
الأنبياء القدامى كانوا يستخدمون الموسيقى في تبليغ دعوتهم. وإذا فهمنا أن الموسيقى
شيء أبعد من النغمات والأوتار الصوتية، فإننا سنجدها في التراث الديني القديم،
سواء في صلوات القديسين أو آيات الكتب المقدسة(1). ومن المؤكد أن الموسيقى استخدمت
وما تزال في الحروب كوسيلة لتوحيد المشاعر القتالية وشحن الأحاسيس الوطنية. ومن أهم
المدارس الموسيقية "المدرسة الرومانية" Romanticism والتي تعبر عن الشوق إلى الماضي
والعراقة، والحنين إلى البساطة وحب الريف، وعشق الطبيعة والهروب من التمدن.. وقد
أدّت هذه المدرسة إلى بروز الموسيقى الوطنية والقومية حيث تميزت العديد من القوميات
الصغيرة بألحانها الموسيقية الخاصة التي صارت بمثابة الشعار الذي يحرك مشاعر الولاء
للوطن، ومن هنا كان ما يعرف اليوم "بالنشيد الوطني" والذي اتخذ من القداسة مقاماً
يوازي مقام "العَلَم" الذي تقدم في سبيله التضحيات الغالية...
والموسيقى كما ينسب إلى "أفلاطون" خدمت البشرية في تحقيق التوحد بين أحاسيس البشر.
ولا يوجد خلاف على أن معرفة الخلفية الثقافية للموسيقى تمثل عاملاً هاماً في إثراء
الخبرة التي يكتسبها المستمع(2). لذلك لا ينبغي أن تشغلنا متعة السماع عن الفكر
الكامن وراء العمل الفني، فالعديد من علماء النفس والذين خبروا التأثيرات الموسيقية
نبهوا إلى هذه الحقيقة فهذا "هندرسون"(3) يعتبر أن القوانين التي تحكم علاقة الحواس
البشرية بالفن الموسيقي بعضها ينتمي إلى الجانب العقلي والفكري، وبعضها الآخر ينتمي
إلى الجانب العاطفي... ويرى "جون ديوي"(4):
"أن العقل البشري يتشكل ببطء مع
المكتسبات التي يستخلصها من الظروف المؤثرة فيه، ومن الأشياء التي تمده بالمعرفة
والسعادة، والشعور والوعي، ويتغير دائماً وبسرعة لأنه يتكيف في حركة مستمرة مع
الخبرة المستمدة من الحياة...
ومن هنا تحدث بعض العلماء المتخصصون في النفس البشرية، وعلم الاجتماع، عن فلسفة
الجمال، Aesthetics بإعتبارها ذات مواصفات نسبية، وأن الأخلاق أيضاً، والتي هي
مجموعة القيم التي تحكم السلوكيات الفردية والاجتماعية هي الأخرى نسبية، تابعة
للتغيرات التي تطرأ على النفس البشرية نتيجة تأثرها بالمكونات الخارجية المختلفة...
ونتيجة لهذا التفاوت الناشىء عن اختلاف الأمزجة البشرية نشأت مدارس فنية وموسيقية
متعددة، ومتفاوتة منها المدرسة الحوشية Barbarism التي تمجد التنافر والإيقاعات
العنيفة البدائية، ومنها المدرسة العشوائية Aleadric، والتي تعبر عن المزاج المضطرب
للإنسان المعاصر، وأخيراً المدرسة الصناعية Concrexe والمدرسة الإلكترونية، ومن
ناحية أخرى المدرسة الكلاسيكية الجديدة. ومن الواضح أن هذه المدارس الموسيقية والتي
تعبر في تناقضاتها عن الصراعات النفسية القائمة في النفس البشرية المعاصرة، وترسم
صورة التمزق العاطفي والاضطراب الخلقي نتيجة فقدان الميزان القيمي وتنحِّي الثوابت
الأخلاقية التي من شأنها الإسهام في صناعة التوازن العاطفي والعقلي للإنسان...
ومن
هنا نجد ما يسمى بالصرعات الموسيقية التي تنزع بالإنسان نحو البهائمية لتخلق له
أحاسيس شهوانية بدل الأحاسيس العاطفية (الرومنسية) الرقيقة التي فقدها جراء تحول
الحياة البشرية إلى عصر الآلة، وتحول الإنسان إلى بضعة أرقام لا أكثر ولا أقل...
وبدل أن تسهم الموسيقى الراقية الصادرة عن الأمزجة المعتدلة، والأحاسيس الرهيفة
التي تشعر بالجمال، وتبدع آيات الفن، بدل أن تسهم مثل هذه الموسيقى بصناعة ما أمكن
من مقومات الصمود في الوعي العاطفي البشري أمام تيارات الهاوية المادية، فإن تلك
التيارات الغاشمة بضجيجها وضوضائها ومحاولاتها الثورة على كل القيم، والخروج من
المعقول إلى اللامعقول، ومن النور والوضوح إلى الإبهام والظلام، هذه التيارات بدأت
ترسم نهاية الإنسان العاقل في هذا الزمان الآخر... ولا بد لنا من دعوة في هذا
المجال...
حذار حذار من الموسيقى فإنها تعبر عن مضمون أصحابها، وحذار حذار من
آثار الموسيقى في النفس فإنها تخلق المضمون في أصحابها، فهي سيف... سيف ذو حدّين.
(1) د. سمحة الخولي - القومية في موسيقى القرن العشرين
- سلسلة عالم المعرفة - رقم 162 - المقدمة.
(2) انظر: المايسترو يوسف السيسي، دعوة إلى الموسيقى - سلسلة عالم المعرفة - رقم
46، ص15 - 16.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.