نلا الزين
يولد الإنسان بقدر محدود من السلوك الثابت وبقدرة كبيرة
على التعلُّم ومن هنا كانت وظيفة المجتمع ممثلاً في الأسرة أولاً وفي المدرسة ثانياً
وفي المؤسسات الاجتماعية ثالثاً في تربية الفرد وتعليمه وإعداده للأيام القادمة. إنَّ
قدرة الإنسان على التعلم هي سرُّ تفوقه على سائر المخلوقات وعماد تحكُّمِه في محيطه
الاجتماعي والإنساني بمختلف أنواعه.
هذا الإنسان الذي يتعلم من أسرته ومن مدرسته
ومن مجتمعه كيف يواجه بيئته وما فيها من عوامل طبيعية ومكتسبة. والأسرة بدورها تحرص
على تعليم الطفل كيفية مواجهة الحياة ومطاليبها بالتعاون مع المؤسسات الاجتماعية،
من هنا كانت أهمية الأسرة خاصة والمجتمع عامة في إعداد الطفل وتأهيله للحياة. وإذا
أراد المجتمع أن يكون حيّاً ناشطاً متوثباً لا بدَّ له من:
1 - أن يتغير ويتبدل ويتطور ويحرص على أن يكون هذا التطور نحو الأحسن لكي يتوصل
الفرد إلى تحقيق ذاته في مجتمعه يجب أولاً أن يكون له عقل متسائل، ومهارات للتواصل
المثمر ومعرفة الصحة وقدرة على إرضاء اهتماماته العقلية، وخلقاً طيباً.
2 - يجب أن يحقق الفرد علاقاتٍ اجتماعية مفيدة ومريحة ضمن أسرته، ومع أصدقائه في
العمل والحياة وحتى في اللعب.
3 - أن يتوصل إلى امتلاك حرفة مناسبة لمواهبه واهتماماته وحاجات مجتمعه.
4 - أن يستشعر مسؤوليةً وفهماً لمجتمعه وهنا لا بد من فهم البيئة الداخلية
والخارجية والعلاقات القائمة بين الأفراد والجماعات.
إنَّ الإنسان اجتماعي سواء كان الميل إلى التجمع غريزة في الإنسان وفطرة أو كان
أمراً اكتسبه من حياته الاجتماعية، فإنَّ هذا الميل إلى التجمع قوي وأساسي وهام وهو
من الأصالة والأهمية ما يجعل منه قطب الرحى في الحياة البشرية خاصة. في الماضي كانت
المجتمعات متباعدة، بل إن بعضها كان معزولاً، أمَّا اليوم فإنَّ وسائل الاتصال قد
ضيقت العالم وجعلت التواصل بين المجتمعات حائلاً بين مجتمع ما والرغبة في العزلة.
لقد شهد القرن الأخير أحداثاً جساماً في كل حقل من الحقول، وفي كل منحى من مناحي
الحياة ولقد اتخذ الكثير من هذه الأحداث شكل الثورة التي غيرت الكثير من الاتجاهات
ومنها:
- الثورة المعرفية
- الثورة التكنولوجية
ولقد تركت هذه العناوين أثرها في شتىَّ المجالات والميادين.
هذه المعارف التي تراكمت لدى الإنسان في كل الحقول، تخضع الآن لعملية من إعادة
التنظيم والبناء النظري الجديد بغية الاستعانة بها في فهم الإنسان والمجتمع هذا
الإنسان الذي يولد بقدراتٍ متنوعة كامنة فيه وتتراوح هذه القدرات من حيث المستوى
بين الفطرة، وبين إمكانية الابتكار بأرقى أشكاله ومعانيه، فكما أنَّ الإنسان يولد
بقدرة فطرية على التنفس وهضم الطعام وغير ذلك، من الأفعال الحيوية الهامة، فإنه
يولد أيضاً بقدرة على الفهم والإدراك والحكم والابتكار، وفيما بين هذين المستويين
نجد العديد من القدرات العملية والنظرية، الفنية، الاجتماعية وغير ذلك. ولكن لا بدَّ
للفرد من امتلاك الحكمة والمعرفة معاً ليتمكن من تأمين حاجاته وفهم محيطه ومده
بطاقته اللازمة له.
وهذا يتوفر في مجتمعه الأول وهو العائلة، التي تحرص على تأمين الغذاء والكساء
والعناية الصحية وتضيف إلى ذلك الإفادة من قدرة الفرد فيها على التعلم وتنقل إليه
الخبرة ووسائل في مواجهة الحياة ومفاهيمها وقيمها كما تجعل الفرد فيها يحقق ذاته
ويفتح مواهبه وقابلياته، وهذه التهيئة للحياة هي المهمة الأساسية للمدرسة الأولى (العائلة)
ثم للمدرسة الثانية (مركز العلم والمعرفة). إنَّ حياة الفرد كلٌّ متصلٌ يمتد فيه
الحاضر بين الماضي والمستقبل، كذلك فإنَّ حياة المجتمع كلٌّ متصلٌ يتصل فيه الماضي
بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، وكما أنَّ الفرد يتغير كذلك فإنَّ المجتمع يتغير لأنَّ
التغير صفةٌ أساسية من صفات الأحياء ولكن هناك سؤال من يغير الفرد؟ ومن يغير
المجتمع؟ وكيف يتغير المجتمع وفي أيِّ اتجاه يتغير المجتمع؟ إنَّ كلَّ مجتمع يحب أن
يتغير نحو الأفضل والأحسن ومفهوم الأفضل والأحسن يتغير من مجتمع إلى آخر ولكن هناك
وسيلة أساسية لتحقيق ذلك وهي التخطيط العلم الوعي التقدم بأنواعه وعدم استنزاف
الكثير من القوى والمال والجهد والوقت دون فائدة.
التغير يكون من قبل أفرادٍ أو جماعات، وصحيح أنَّ القادة كأفراد لهم دورهم في
التغير ولكنهم لن يستطيعوا لعب دور فاعل تمام الفاعلية إلاَّ إذا كانت بقية الأفراد
والناس والجماعة مهيأة للتقدم والتغير، مستعدة له، حريصة عليه ويتقرر هنا أن
المجتمع يتغير بأفراده وقادته ومنظماته ومؤسساته. كذلك فإنَّ البيئة المنزلية،
والمحيط العام، والجو الثقافي والتربوي، كلها عوامل تعمل في تكوين هذا التغير
والتقدم والتطور نحو الأفضل والأحسن. إنَّ واحداً من أهم آمال البشرية هو توقها إلى
الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أفضل وتوقها إلى التعلم والمعرفة والوعي، والتواجد في
مكان مشعٍ بالنور والدفء والراحة تحت قرص الشمس وهذا يحتاج إلى صبر وإرادة وطموح
وعدم استسلام لليأس والتحديات الصعبة على مستوى الفرد والجماعة أيضاً. لذا فإنَّ كلَّ
مجتمع قادرٌ على الإتيان بما هو فريد ومتنوع ومختلف عن مجتمع آخر ويمكن هنا اغناء
التراث المشترك بين المجتمعات، وإن إضافة قيمة أو فكرة أو ابتكار شيء ما كفيل بأن
يخلق حضارة متنوعة ومشتركة وغنية للبشرية جمعاء. هناك أناس يستغلون جزءاً يسيراً من
قدراتهم والبعض يستغلها بكاملها وهناك من يستغلها للخير وآخرون للشر. ولا شك أنَّ
المجتمع الإنساني قد حقق العديد من الأمور التي شكلت خدمة للإنسان والمجتمع ككل
ولكن بالمقابل هناك عوامل سلبية تهدد الإنسانية والمجتمعات البشرية وتتطلب الانتباه
والحذر والمعالجة، منها:
- السرعة التي تتصف بها حياة الناس العصرية وتفقد الحياة الكثير من معناها.
- ميل الإنسان إلى الحياة الأسهل والسريعة تخرب ما في الإنسان من قدرة على قبول
التحدي.
- الحياة الآلية التي يتصف بها الإنسان المعاصر وتبتعد عن الطبيعة والروح.
وهناك آثار لهذه الأمور والعناوين منها:
- الإنسان الحديث هدف سهل للتوتر والمخاوف والقلق.
- التمزق والضياع ما بين الذات والذوات الأخرى يؤثران على السلوك والقدرات الكامنة
في الإنسان.
وهنا لا بدَّ من نظام قيم يأخذ بعين الاعتبار:
- طبيعة الإنسان.
- طبيعة المجتمع المحلي والعالمي من حوله.
- وطبيعة عالم القيم والأخلاق.
وسعادة الإنسان تتوقف على تناسق هذه العوالم الثلاثة معاً.
ونشير هنا إلى أنَّ الروتين اليومي في حياة أفراد أي مجتمع قد يسبب الكثير من
المشاكل إلى جانب التعب والارهاق الدائمين فينتج عن ذلك الملل القلق، الرتابة،
استنزاف القوى الجسدية والنفسية. وهنا لا بدَّ من تعليم الإنسان وتثقيفه بعادات
وأدوات التأمل والتنوع والراحة من خلال العائلة والمدرسة والمجتمع حتى لا تنتهي
حياته الفردية والجماعية بالفشل والفراغ والمرارة والبؤس. بل العمل على ردم الهوة
بين توق الإنسان وما يتصل به من رؤى وآمال وخطط وما يحققه في الواقع. هنا يشعر
الإنسان من أعماق نفسه وقلبه وعقله وإرادته ودوافعه أن لديه الكثير من القوى
الكامنة فيه وهو قادر على الاستفادة منها وانعكاسها ايجابياً على بيته ومجتمعه
والمحيط من حوله في سبيل تحقيق حياة أفضل وغدٍ مشرق في المجتمع الإنساني.