نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مع الإمام القائد: رحلة في أعماق الصلاة الإسلامية




* الركوع، السجود والتسليم‏
نستكمل في هذه الحلقة ما تحدث به الإمام الخامنئي دام ظله حول الركوع والسجود وأذكارهما والتشهد والتسليم في الصلاة لنصل إلى ختام رحلة في أعماق الصلاة الإسلامية.


* الركوع‏
بعد إتمام القراءة يدخل المصلي في الركوع، أي ينحني أمام الله، القوة الكامنة وراء ذروة التفكير الإنساني في آفاق الخصال الحميدة والعظيمة. الركوع مثال لخضوع الإنسان أمام القدرة التي يعتقد أنها أقوى منه، ولأن المسلم يرى أن الله فوق كل القدرات فهو يركع أمامه، ولأنه لا يرى أيّ موجود غير الله أعلى وأفضل من إنسانيته فهو لا ينحني لأيّ شي‏ء أو شخص آخر. وفي هذه الحال يظهر أمام الله بمظهر الخضوع ولسانه يلهج بحمد الله وبيان عظمته:

* سبحان ربّي العظيم وبحمده‏

إن هذه الحركة التي تؤدى بشكل منسجم مع ما يلهج به، تظهر للمصلي ولمن يراه على هذه الحال العبودية للَّه. وبما أن من يعبد الله لا يكون عبداً لغير الله فهي تعلن له بصراحة حريته من عبودية غير الله.

* السجود
عند رفع الرأس من الركوع وفي حين التهيؤ لتواضع وخضوع أكثر يهوي إلى الأرض ويضع جبهته عليها. إن وضع الجبهة على الأرض علامة لأعلى مستوى لخضوع الإنسان، وإنّ المصلي يرى هذا الحد من نصاب الخضوع يناسب الله، إذ أن الخضوع للَّه هو خضوع لكل ما هو حسن وللجمال المطلق. ويرى ذلك حراماً وغير جائز بالنسبة لغير الله. إذ أنّ جوهر الإنسان وهو أثمن بضاعة في متجر الوجود يتحطم بهذه العملية ويغدو الإنسان ذليلاً ومنكسراً. وبينما هو واضع رأسه على الأرض، غارق في عظمة الله، يبرز اللسان قائلاً باتساق تام ما يفسر في الحقيقة عمله ويشرحه:

* سبحان ربّي الأعلى وبحمده‏
الله الأعلى، الله المنزه والمطهّر، وأمام هذه القوة فقط ينبغي للإنسان أن يلهج بالثناء ويضع جبهته على التراب. فإذن سجدة الصلاة ليست انحناءة أمام موجود ناقص وضعيف لا قيمة له كالهوي أمام الأصنام والقدرات الخاوية، بل هو هوي أمام الأعلى والأطهر والأعز. إنّ المصلي بهذه الحركة يعلن بشكل عملي إنصياعه لله الحكيم والبصير، وقبل كل شي‏ء يلقن نفسه هذا التسليم والانقياد. إنّ قبول هذه العبودية المطلقة لله. كما أسلفنا هو الذي يرفع عن الإنسان قيود عبادة كل شي‏ء وشخص، ويخلصه من الأسر والذلة التي هو فيها. إن أهم أثر يرتجى من هذين الذكرين (ذكر الركوع والسجود) هو تعليم المصلي أمام أي شي‏ء يجب أن يخضع وينثني. وهذا معناه نفي كل ما عدا الله، وربما يشير إلى هذا الأمر الحديث المنقول عن الإمام عليه السلام: "أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد".

* التشهد
في الركعة الثانية وفي الركعة الأخيرة لكلّ صلاة بعد أن يرفع المصلي رأسه من السجدتين يتلفظ بثلاث جمل تبين كل واحدة منها حقائق من الدين، وتسمى هذه العملية المقترنة بالألفاظ (التشهد). حيث يشهد في الجملة الأولى بتوحيد ربّ العالمين: أشهد أن لا إله إلا الله، ثمّ يؤكد هذه الحقيقة بهذا النحو: وحده، ثم يؤكدها بنحو آخر: لا شريك له. كلّ ما يجر الإنسان إلى عبادته ويصيّره مطيعاً له فهو إلهه. الهوس والميول الحيوانية، أو الشهوات والآمال الإنسانية، أو النظم والمقررات الجماعية وواضعوها وزعماؤها، كل واحدة منها تدعو الإنسان بشكل من الأشكال إلى عبوديتها وتأليهها وإنّ ذكر لا إله إلا الله هو نفيٌ لكل هذه الربوبيات. والتشهد شهادة من المصلي على هذا النفي، أي أنّ المصلي يتقبل فقط أنّ الله وحده هو الذي له حقّ الإمرة والألوهية عليه، وأنّ جميع ما عداه ليس له أيّ حاكمية عليه.

وليس معنى ذلك أن الموحِّد لا يخضع لأيّ التزام في المجتمع، ولا يحكّم أي قانون، إذ من الواضح أن الحياة الاجتماعية بحسب ماهيتها لا بد لها من الالتزام والانقياد. بل بمعنى أنه لا يقبل أيّ تحكم ونظام لا يستمد من أوامر الله، وهو في حياته الاجتماعية يصغي لأمر الله. إنّ هذا الأمر الرباني ناظر إلى هذه الحقيقة ﴿وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ . وربّما من أجل ملاحظة هذا المعنى وبتبعه يقول المصلي في الجملة الثانية من التشهد: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إن قبول محمد صلى الله عليه وآله مرسلاً من قبل الله هو في الحقيقة قبول للاستخلاف الإلهي، أي اتباع طريق الله عن طريق اتباع طريق محمد، وأخذ أوامره من عبده المجتبى. كثير من عباد الله أخطأوا في معرفة الطريق الذي يرضي الله. إن معرفة محمد صلى الله عليه وآله وقبول كونه رسول الله، محدد وموجّه للجهد والحركة التي ينبغي للإنسان العابد إبرازها، لكي يثبت صحة دعواه في عبادة الله. في هذه الجملة، بالاستناد إلى عبودية محمد صلى الله عليه وآله واستخدام كلمة (عبده) قبل (رسوله) كأنما أريد التعريف بأهم فضيلة في الإسلام.

وحقاً إن الأمر لكذلك، فإنّ جميع الفضائل الإنسانية تتلخص في عبادة الله الحقيقية والإخلاص للَّه، وكل من حاز في هذا المضمار على سهم أوفر، فستكون كفته الإنسانية أثقل ميزاناً من الجميع. إنّ النقطة الدقيقة الموجودة في هاتين الجملتين من التشهد هي التذكير بالتوحيد والنبوة ضمن شهادة من قبل المصلي بوحدانية الله وبرسالة محمد صلى الله عليه وآله وعبوديته.

هذه الشهادة في الحقيقة عبارة عن قبوله بجميع الالتزامات المترتبة على هاتين العقيدتين؛ وكأنما المصلي بهاتين الشهادتين يريد أن يقول: إني أعتنق جميع التكاليف التي تنشأ من قبل هاتين العقيدتين (التوحيد والنبوة)، ولا قيمة في الإسلام للعلم التافه الفارغ الذي لا يستتبع تعهداً، ولا للاعتقاد الذي لا يكون منتجاً. إنّ الشهادة على حقيقة بمنزلة الوقوف عليها وقبول جميع التعهدات والأعمال الناتجة عن العلم بها، القبول الناشى‏ء من اعتقاد خالص وإيمان فعال وإيجابي. فإذاً تشهد الصلاة في الحقيقة تجديد بيعة من المصلي مع الله ورسوله. الجملة الأخرى من التشهد هي طلب ودعاء، اللهم صلّ على محمد وآل محمد إنّ محمداً صلى الله عليه وآله وآله الطاهرين هم العلامات البارزة لهذه العقيدة، وإنّ المصلي يذكر هؤلاء العظام بلسان الدعاء وبالصلاة عليهم ليعزز ارتباطه الروحي بهم.

إنّ أتباع كل رسالة إن لم يجعلوا نصب أعينهم قادة ذلك المذهب الحقيقيين، فمن المحتمل جداً أن يضلوا الطريق، وإنّ إراءة العلامات العينية هي التي عززت ثبات عقيدة الأنبياء على مرّ الزمان. إن المصلي يدعو من أعماق قلبه لمحمد وآله صلى الله عليه وآله، وهم خلاصة تبلورات هذه العقيدة، يدعو للذين أفنوا عمرهم وعاشوا مجسدين لهذه العقيدة، وأظهروا للتاريخ إنساناً من الطراز الإسلامي، ويطلب من الله أن يصلي عليهم ويرحمهم، ويعمِّق ويوثِّق الاتصال الروحي بينه وبينهم، إذ بإمكانهم كجاذبة قوية جذبه نحو طريقهم والهدف الذي كانوا ينشدونه. إن الصلاة على محمد وآل محمد هي المجسِّدة للأشخاص المخلصين، والنخبة المسلمة. وبتجسيدها هذه الوجوه، وجعلها نصب الأعين، يتمكن المسلم دوماً من معرفة الطريق الذي يجب عليه قطعه وبالتالي يتهيّأ لسلوكه.

* سلام الصلاة
إنّ هذا السلام يشتمل على ثلاث تحيات، مع ذكر الله وذكر اسمه، فإذن تبدأ الصلاة باسم الله وتختتم باسمه. وبين تلك البداية وهذه النهاية طريق حافل بذكر الله، إنّ ذكر النبي أو آله في جملة سيكون أيضاً مصحوباً بذكر الله، بصورة استمداد من لطفه ورحمته. الجملة الأولى تحية من المصليّ للرسول صلى الله عليه وآله وطلب الرحمة من الله لذلك العبد المجتبى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. الرسول صلى الله عليه وآله، هو مؤسس الإسلام، أي رأس الحركة والجهود التي يستعد المصلي الآن للعمل فيها بنفسه. هو الذي صرخ بهتاف التوحيد، الذي أظهر زخرف الدنيا وأسس الحياة الأفضل للإنسان إلى الأبد. هو الذي رسم الخطوط العريضة لأنموذج الإنسان الإسلامي وللأمة التي يمكنها أن تكون معهداً لهذا الإنسان.

إنّ المصلي يعكس هذا الشعار في صلاته وتعاليمها الضمنية في حياته وفضاء زمانه، ويخطو خطوة خطوة نحو ذلك المجتمع الأفضل وتكوين ذلك الإنسان النموذجي. فإذن ليس اعتباطاً ذكر رسوله وهاديه الذي جعله مرشده في هذا الطريق في نهاية الصلاة بتحية، فبهذا اللسان يعلن عن حضوره إلى جانبه وفي طريقه. في الجملة الثانية يسلم المصلي على نفسه وعلى جميع سالكي مسلكه والعباد الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وبذلك يحيي ذكر عباد الله الصالحين في ذهنه ويجعل وجودهم وحضورهم مادة تبعث الاطمئنان في نفسه. ففي العصر الذي يستولي فيه أعوان الشيطان على مناصب رجال الله الصالحين، هل يمكن ترجّي إحسانهم وصلاحهم والنظر إليهم بعين الواقعية، وينتظر منهم ما ينتظر من رجال الله؟ أفهل يمكننا أن نتوقع شيئاً غير المعاصي والآثام والضلال وإماتة الحق بين البشر؟ علينا أن نعترف بأنه لو أمكن ذلك فإنه لا يمكن بسهولة.

إن السلام على عباد الله الصالحين يأتي في هذا الخضم ليبعث الدف‏ء والطمأنينة في القلوب الحزينة المضطربة. وفي الختام يقول المصلّي في الجملة الثالثة مخاطباً هؤلاء العباد الصالحين، أو مخاطباً الملائكة، أو مخاطباً المصلين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبذلك يستذكر مرة أخرى الصلاح والاستحقاق للصفات الملائكية أو الاتصال بباقي المصلين، فيذكر المخاطبين الأعزاء بدعاء الخير وينهي صلاته.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع