السيد مصطفى ترحيني
﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ
الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
(التوبة: 112). خلق الله الإنسان كائناً مختاراً قابلاً للارتقاء والسمو والعروج
نحو الله بواسطة أعماله وعباداته وأخلاقه.
واصطفى عزّ وجلّ من خلقه عدداً من
عباده لعلمه تعالى بطهارة نفوسهم وسمو أخلاقهم فكانوا الصفوة من عباده لأنهم لا
يعصون الله ما أمرهم بل لا يفكرون في معصية
الله طرفة عين. وعلى رأس هذه الصفوة
النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ثم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام الذين
شاركوا النبي في نوره، وبهم توسّل الأنبياء السابقون كما نصّت عليه الروايات، وكذلك
الأئمة من ولد الحسين عليه السلام عرفوا
الله حق المعرفة فعبدوه حق العبادة
فكانوا مثالاً لقوله تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
فلولاهم ما عُبِدَ
الله حق عبادته، عرفوا
الله فخاطبوه ولهجت ألسنتهم تدعوه
ولقد مثّل أهل بيت الوحي صلى الله عليه وآله المؤمنين في القرآن فكل آية ذكرت
المؤمنين كانوا أمراءها وأسيادها، وأي آية تعرضت لصفات المؤمنين وأخلاقهم تجدهم
عليهم السلام يتصفون بأعلاها وأرقاها. ولذا استحقوا أن يكونوا قادة وقدوة في كل قول
أو فعل وحركة أو سكنة فهم القرآن الناطق وبهم تكشف أسرار القرآن الصامت يعلمون
فيعملون، يقولون ويفعلون، وكثيراً ما يفعلون ولا يقولون لعلمهم بعجز بقية الناس عن
تحمّل علمهم وعملهم "إن ها هنا لعلماً جماً لو أصبت له حملة" (نهج قصار الحكم، 147
- 7).
طهّرهم الله من التدنيس ووقاهم شرّ إبليس فكانوا ملكاً للَّه جسداً وروحاً وعمراً
ومالاً وولداً قضوا كلّ وقتهم مع
الله وفي سبيل الله وكما أمر
الله، ففي
الحرب كانوا أبطالاً وفي السلم كانوا أسياداً، في النهار صائمون وفي الليل قائمون.
هم أهل الدعاء والبكاء وتلاوة القرآن، وهذه آثارهم تشهد لهم وتدلّ عليهم فلقد ملأت
أدعيتهم الكتب فلكل سنة دعاء ولكل شهر دعاء ولكل يوم دعاء ولكل ساعة دعاء، وقبل كل
صلاة دعاء وبعد كل صلاة دعاء. وكثير من أدعيتهم دوِّنت ممن سمعهم يدعون ويبكون
ويتململون ومن أراد فليرجع إلى كتب الأدعية وخاصة الكتاب المتداول بين الأيادي
الموسوم بمفاتيح الجنان الذي نقل بعضاً من أدعيتهم ولكن المنصف عليه بأدعية الإمام
السجّاد في الصحيفة السجادية فلعله يدرك جزءً يسيراً من علاقتهم بالله عزّ وجلّ
وارتباطهم به. عرفوا عليهم السلام أن
الله عزّ وجلّ خصّ بعض الأمكنة والأزمنة
بخصائص فخصوها. عرفوا "أن
الله اختار من الأيام الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان
ومن الليالي ليلة القدر" فاختاروها واختصوها بخصائص وهذا ما نجده واضحاً عند
أدنى مراجعة لما ورد عنهم عليهم السلام من أدعية وغير ذلك خاصة ببعض الأزمنة أو
الأمكنة وما أريد أن أوجه القارئ إليه هو جملة من أفعالهم العبادية وغيرها دون
أوامرهم وأقوالهم الواردة في شهر رمضان ولياليه:
1 - استحباب السحور: وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أن السحور بركة. ورد في
الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله: "إنه كان يأكل الهريسة أكثر ما يأكل ويتسحر
بها" (مستدرك، ج7، ص357، حديث 7).
2 - الدعاء لنفسه عند الافطار: ورد في الحديث: "جاء قنبر مولى علي عليه السلام
بفطره إليه... إلى أن قال: فلما أراد أن يشرب عليه السلام قال: بسم
الله اللهم لك
صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم" (وسائل، ج10، ص148، حديث
3). وورد قريب منه عن النبي صلى الله عليه وآله.
3 - استحباب دعاء الصائم للذي يدعوه للإفطار. ورد أن الرسول صلى الله عليه وآله كان
إذا أفطر عند قوم قال: "أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وحلّت عليكم
الأخيار" (مستدرك، ج7، ص355، حديث 5). ودعاء الإنسان لنفسه ولغيره استجابة
لما ورد من أن دعوة الصائم تستجاب عند افطاره. وهذا يدعونا لكي نتأنى قليلاً قبل أن
نبدأ بالافطار لكي نستغل هذه الفرصة التي سنحت وهي أن نضمن قبول الدعاء وخاصة عند
الدعاء للغير لما فيه من قبول للدعاء وتشديد لروابط الإيمان وعرفان بالجميل.
4 - ما هو طعام الإفطار.
ورد في الحديث: "أن الرسول صلى الله عليه وآله كان يفطر
على التمر في زمن التمر وعلى الرطب زمن الرطب" (وسائل، ج10، ص157، حديث 4،
باب 10 من أبواب استحباب الافطار، ح4). وورد أيضاً: "أن الرسول صلى الله عليه وآله
كان يفطر على الأسودين قلت: رحمك
الله، وما الأسودان؟ قال: التمر والماء، والزبيب
والماء" (وسائل، ج10، ص158، حديث 10).
العشر الأواخر وليالي القدر
ورد عن أبي عبد
الله عليه السلام قال: "كان رسول
الله صلى الله عليه وآله
إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، واجتنب النساء، وأحيى الليل، وتفرّغ للعبادة"
(وسائل، ج10، ص353، ح5). وروي عن علي عليه السلام: "أن رسول
الله صلى الله
عليه وآله كان يطوي فراشه ويشدّ مئزره في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يوقظ
أهله ليلة ثلاث وعشرين وكان يرش وجوه النيام بالماء في تلك الليلة". وكانت فاطمة
عليها السلام: لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة، وتداويهم بقلّة الطعام،
وتتأهب لها من النهار، وتقول:
"محروم من حرم خيرها"
(مستدرك، ج7، ص470، ح15).
تكشف لنا هذه الرواية عن عدّة أمور منها: أن الإنسان المؤمن عليه أن يهجر النوم في
هذه الليالي المباركة لكي لا يضيع على نفسه هذه الفرصة التي قد لا يدركها مرّة أخرى
ولكي لا يضيع على نفسه أجرها وثوابها. ومنها الاهتمام بمن في بيته من زوجة وأولاد
لكي يربيهم ويعودهم الاهتمام بهذه الليالي المباركة وخاصة ليالي القدر. وهذا ما
كانت تقوم به سيدة نساء العالمين عليها السلام فإنها كانت ترعى أهلها وتهيئهم
للقيام في الليل. وما أجمل التعبير بلفظ (تداويهم) هذه العبارة الملفتة للنظر في
كيفية تربيتها وتأديبها لمن في بيتها، فما كانت لتوقظهم بالصراخ ولا تتركهم ينامون،
وإنما كانت عليها السلام تهيىء لهم أسباب اليقظة فتأمرهم بالنوم نهاراً خاصة وأن
نوم الصائم عبادة وتعالجهم بقلة الطعام عند الافطار وبعده لأن كثرة الطعام تورث
كثرة النوم وإذا صادف وسهيت عين أحدهم ترش وجهه بالماء.
* ليلة القدر:
ورد في الحديث: "كان أبو جعفر عليه السلام:
إذا كان ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث
وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل فإذا زال صلّى" (وسائل، ج10، ص356، ح4).
وورد أيضاً: "كان أبو عبد
الله عليه السلام مريضاً مدنفاً فأمر فأخرج إلى مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله فكان فيه حتى أصبح ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان".
* ختم القرآن:
ورد عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:
"كان أبي عليه السلام يختم القرآن
أربعين ختمة في شهر رمضان" (البحار، ج98، ص5). أليس شهر رمضان ربيع القرآن أفلا
يجب الاهتمام به في أيام ربيعه هكذا كان قادتنا وقدوتنا يتعاملون مع القرآن في
ربيعه فهلمّوا معاً لنقتدي بهم.
* الاعتكاف في شهر رمضان:
في حديث عن أبي عبد
الله عليه السلام: "كان رسول
الله صلى الله عليه وآله
إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، وضربت له قبة من شعر.. الخ" (الوسائل،
كتاب الاعتكاف، ب1، ح1). وأخيراً من أراد أن يعرف بعضاً من شرف شهر رمضان فعليه
أن يقرأ وبتمعن دعاء الإمام السجاد عليه السلام في وداعه لشهر رمضان الوارد في
الصحيفة السجادية وكيف يودعه عليه السلام وداع المحب لمن يحب والصديق للصديق وكيف
يتأسف عليه السلام على انقضاء أيام شهر رمضان ولياليه.