مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أثر الاعتكاف في ترويض طائر الخيال‏


الشيخ محمد خاتون‏


قبل البدء في الكلام حول قدرة الاعتكاف على ترويض طائر الخيال لا بد لنا أولاً من تعريف طائر الخيال والاعتكاف. فما هو طائر الخيال؟ طائر الخيال كما يقول الإمام الخميني رضي الله عنه في كتابه "الأربعون حديثاً" طائر متحلق يستقر في كل آن على غصن ويجلب الكثير من الشقاء وإنه من إحدى وسائل الشيطان التي جعل الإنسان بواسطتها مسكيناً عاجزاً ودفع به نحو الشقاء. وأمام هذا التعريف لطائر الخيال لا يبدو أن هناك قوة زائدة في هذا الطائر بل إن عدم الإمساك به تنجم من حالة ضعف تعتري الإنسان وذلك لأن المرء إذا أراد أن يقوم بعمل من أجل الإمساك بطائر الخيال والتحكم فيه، فإن هذا في غاية السهولة غير أن الوهن البشري من جهة، وتناثر قوى الإنسان الفكرية من جهة ثانية، واستخفاف هذا العمل في مقام السلوك إلى الله تعالى من جهة ثالثة، كل ذلك يعطي لهذا الطائر قوة يتشتت الإنسان في عاقبتها أيما تشتت، فلا يكاد يقوم بعمل واحد وهو يرتكز على معنى معين، بل إن الأفكار حينما تعصف بعقل الإنسان حتى في الصلاة التي هي خاصة لله عز وجل فلا ينال المرء في نهايتها إلا جزءاً صغيراً لا يكاد عادة يذكر.


ما هو الاعتكاف؟ الاعتكاف هو أن يقوم المرء بالمكث عدة أيام (أقلها ثلاثة بشرط الصيام في أحد المساجد الجامعة) فهناك إذن عدة مفروضات شرعية:
أولاً: الكون في المسجد وهذا في حد ذاته أمر يطلبه الشرع وبين أيدينا جمع كبير من الأحاديث والروايات التي تتحدث عن هذا الجانب فيما يتعلق بمكانة المسجد في الإسلام منها ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة،فإن الجنة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربي" وعن الصادق عليه السلام: "عليكم بإتيان المساجد فإنها بيوت الله في الأرض ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه وكتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء وصلوا في المساجد في بقاع مختلفة فان كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة".

ثانياً: الصوم وهو من المستحبات الأكيدة في غير شهر رمضان وبعض الواجبات المعينة الأخرى كالنذر وما شابه وهذا له دوره في وصول الإنسان إلى الغاية التي شرَّع الله تعالى بعض العبادات من أجلها وهو تقوى الله عز وجل والمخافة منه.

ثالثاً: المكث ثلاثة أيام على الأقل: وهي التي تعطي للاعتكاف معناه، ولا يمكن هنا قياس هذه الأيام الثلاثة بآثارها على ما يعادلها خارج دائرة الاعتكاف وسوف نتحدث تباعا حول هذا الموضوع.

ونبدأ بمعالجة المشكلة التي تنتاب البشر وهي عدم القدرة على التركيز وهي الحالة الناشئة من عدم امساك الإنسان لطائر الخيال الفرار الذي لا يترك أحداً بدأ بعبادة ما إلا وفر باتجاه ما خارج بالكلية عن الصلاة وعن العبادة، فهل يا ترى يستطيع المرء من خلال هذا الاعتكاف أن يبدأ رحلة يركز فيها على معنى معين؟ وهل تكون لهذه الجوانب المأخوذة أصلاً في الاعتكاف ليكون لها دورها في ذلك العمل؟ إذا أردنا أن ننطلق من مبدأ المسجد، فإن المساجد هي أحب الأماكن إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن ماذا يستفيد الإنسان من بقائه مدة معينة في هذا المسجد؟

إن الوجود ضمن دائرة صغرى قد يوحي للبعض بأن الآفاق عندئذ سوف تكون ضيقة كما هو الحال في ضيقة المكان، غير اننا إذا أدركنا ما للمسجد من عظمة وما له من آثار فإننا سوف نضع إصبعنا جزئياً على موضع الجرح، ففي هذا المسجد تكمن حالة خاصة وهي استحضار الإنسان لمعاني الغيب وذلك لأن العبادة التي تمارس في داخل المسجد والتي أخذت أصلاً في موضوع الاعتكاف تجعل من الإنسان الذي يعيش الضيق المكاني، يعيش في نفس الوقت ارحب المعاني الغيبية، وعندما يعيش الإنسان هذه المعاني الرحبة على مستوى الغيب فإن قدرته على التركيز سوف تزداد عندئذ، وذلك لأن خياله إنما يفر من مكان إلى مكان آخر إذا كان يعيش مع مواد هذا الكون، أما إذا كان يعيش مع العلاقة مع الله سبحانه وتعالى فإن الأمر سوف يكون في غاية الاختلاف، وذلك حتى من منطلق التبادل إذا صح التعبير بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى فمن فعل شيئاً يريد به وجه الله عز وجل، فإن الله تبارك وتعالى أكرم الأكرمين وسوف يجعل من هذا الإنسان صاحب قدرة كبيرة على الإمساك بهذه الحالة التي ينطلق منها الإنسان في خطوات ثابتة نحو الله سبحانه وتعالى.

وإذا نظرنا إلى المطلوب الثاني في الاعتكاف وهو الصوم، فإننا نجد أن هذا الأمر بحد ذاته يلقي بظلاله على نفس موضوع ترويض هذا الطائر وجعله في المتناول وذلك لأن الصوم إذا قام به الإنسان وأخلص فيه لله سبحانه وتعالى فإنه سوف يوصله إلى هذا المطلوب، فكيف إذا كان هذا الصوم في المسجد فإن خصوصية المكان وخصوصية الفعل عندئذ سيقومان بدور كبير لإيصاله إلى مبتغاه وذلك بعد أن يتجرد من القيم المادية لهذا الفعل. إن الأفعال المادية التي يمارسها الإنسان في حياته هي التي تكون محطة لطائر الخيال عندما يقوم الإنسان بعبادة معينة فإذا قام هذا المرء بالإستغناء عن هذه المسائل المادية ولو لفترة وجيزة فإنه يقف عندئذ بين طائر الخيال هذا وبين التوقف في هذه المحطات والصوم بحد ذاته مع ما فيه من عناء ومشقة للإنسان إذا استطاع المرء أن يتقيد به حق التقيد فإنه يكون وسيلة كافية للوصول إلى الله سبحانه وتعالى لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 183) وتقوى الله سبحانه وتعالى تحتاج إلى أن يركز الإنسان في نفسه مخافة الله وهذا ما لا يمكن أن يحصل إلا من إخلاص الإنسان لجهة وترك كل ما يعيق حركته للوصول إلى تلك الجهة. وأما المسألة الثالثة وهي المكث فإن الإنسان بطبيعته ميال إلى التنقل، والتنقل هذا والذي هو من صفات الإنسان، كذلك هو من صفات طائر الخيال، فإذا ما ألزم المرء نفسه بالمكث في مكان ما ممارسا لمجموعة معينة من العبادات فهذا سوف يجعل من هذا المرء ذا قدرة على الإمساك بطائر الخيال لأن هذا الطائر في تلك اللحظات يكون أخف حركة وأقل تنقلاً في عالم دنيا الإنسان وبالتالي فإن وجود هذه الأيام الثلاثة في المسجد في حالة صيام وانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى تجعل من هذا الإنسان صاحب موهبة كبيرة لأنه تمكن من الوصول بهذا الشكل إلى الجهة التي يريد السلوك إليها.

وهنا يستطيع الإنسان أن يجري مقارنة بين الأدوات التي يستعملها البعض من أجل التركيز على معنىً معين وبين الاعتكاف الذي شرعه الإسلام كعبادة خالصة لله سبحانه وتعالى. إن الإنسان وبلا شك يستطيع أن يصل إلى التركيز على معان معينة من خلال القيام بأسلوب منحرف من الأساليب التي يبتدعها غير المؤمنين بالله عز وجل وقدرته على تطويع الأشياء غير أن الذي يلفت نظر الإنسان إلى أهمية الاعتكاف أن الارادة في عملية الاعتكاف هي التي تنمو ومن خلالها يستطيع الإنسان أن يصل إلى المطلوب بخلاف الأعمال الأخرى التي يقوم بها بعض الأشخاص وذلك لأن عبادة المعتكف تنتج عن إرادة يمارسها الإنسان للوصول إلى المطلوب وهو يعيش مطلوبات متلاحقة من المسائل الشرعية الهادفة، بينما فعل غير الإنسان المسلم الملتزم للوصول إلى عملية التركيز هو فعل يقوم أولاً وآخراً على أسس غير شرعية، هذه الأسس تستطيع أن تفعل فعلا إيجابياً غير أن إهدار الوقت الذي يحصل للإنسان من جهة وهو يمارس هذا العمل والآثار السلبية الأخرى التي يحصل عليها الإنسان بعد عملية التركيز، هذه ضريبة كبيرة لا يمكن للإنسان أن يفكر في إيجابياتها مقابل السلبيات الأكثر منها التي تحصل من هذا الطريق، وهنا لا بد أن نتذكر أن كل واحد من أركان الاعتكاف يعتبر مربياً للإنسان فكون الإنسان في المسجد هذا بحد ذاته ومن خلال احتكاكه بالمسجد ومن فيه وما فيه يجعل من الإنسان قريباً من الله تعالى وبالتالي يكون ذا قدرة أكبر في المستقبل على الاحتكاك بالناس وعلى التعايش مع مشاكلهم بل وعلى حل هذه المشاكل وأين منه عبادة أولئك المنحرفين وكذلك الحال فيما يتعلق بالصوم الذي لا يعني بحال من الأحوال ترك مجموعة من المآكل والمشارب كذلك لأن الصوم هو الإمساك عن المفطرات بقصد نية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فإن الإنسان الذي يترك هذه المجموعة من المحرمات سوف يستعين بأمور أخرى إيجابية للوصول إلى ذلك المطلوب.

وكذلك الحال في المكث مدة معينة في داخل المسجد وعلى هذه الحالة فإن هذه بحد ذاتها لها دور فعال في إثبات إرادة الإنسان وقدرته على الإمساك بالاشياء فكيف إذا اجتمعت هذه الأركان الثلاثة أفلا يكون لها دور إيجابي في صياغة ذلك الإنسان المريد والقادر على الوصول المطلوب؟ ومن الطبيعي لنا ونحن نتذكر معاناة الإنسان المعتكف علينا أن نرتكز إلى مسألة أساسية وهي أن الاعتكاف الذي هو عبادة من العبادات لا بد من الاقدام عليه بوعي وبفهم وبتعمق وإلا فإن الإنسان قد يأتي أياماً معينة للقيام في مسجد من مساجد الله ثم لا يحصل على النتيجة المطلوبة والمطلوب من الإنسان بعد هذا أن يراقب نفسه في هذه العملية، هل يا ترى حصل شي‏ء من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى أو لا؟ هل أصبح بقدرته أن يقوم بعمل معين وهو لا ينظر إلا إلى الجهة التي يخلص لها في ذلك العمل وهي الله سبحانه وتعالى؟ ثم بعد ذلك عليه أن يفكر ثالثاً في النتيجة التي حصل عليها وفي الأخطاء التي وقع فيها في هذه الأيام الثلاثة هل يا ترى حصل منه ما سبب له خللا في هذا الموضوع؟ ويجب علينا أن ندرك في النهاية أن الإنسان عليه أولاً وآخراً أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى حتى في عملية الوصول إلى الإمساك بطائر الخيال فإنه لا يجوز للإنسان أن يسعى إلى هذا الأمر بحد ذاته ولكن عليه أن يخلص في النية وأن يكون عمله متقرباً به إلى الله وخالصاً لوجهه الكريم وعندئذ سوف يدرك الإنسان ما في هذا الفعل وغيره من الأفعال التي أمرنا بها الدين من أثر كبير وطيب على صياغة النفس الإنسانية التي تستطيع من خلال حالة معينة أن تتواصل مع العلي القدير الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وتستطيع من خلال ذلك أن تصبح ذات قدرة كبيرة على الوصول إلى الأهداف.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع