الشيخ مصطفى الجعفري
إنّ الدعاء الرابع والأربعين من أدعية الصحيفة السجاديّة للإمام زين العابدين عليه السلام (دخول شهر رمضان) فيه من المضامين ما يشير إلى أهميّة هذا الشهر وفضائله ودوره في سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وهذا الدعاء يقدّم لنا مجموعة مفاهيم وأحكام دينيّة، فيها العقائد والأخلاق والأحكام، ثمّ يركّز على الصوم كنموذج أساس.
في الواقع، هذا الدعاء يبيّن لنا أنّ شهر رمضان مدرسة عظيمة لها مراحل ومقاطع مختلفة، ذكرها الدعاء في ثلاثة مقاطع أساسيّة.
وقبل الشروع في عرض هذه المقاطع وشرحها، نوضّح ملاحظتين حول اسم شهر "رمضان":
1- رمضان (لغةً)
"رمضان" من المحتمل أن يكون مأخوذاً من رَمَضَ الصائم يرمض إذا حرّ جوفه من شدّة العطش. وورد أنّه سمّي "رمضيّاً" لأنّه يدرك سخونة الشمس وحرّها. وقيل سمّيَ هذا الشهر "رمضان" لأنّه يغسل الأبدان من الذنوب والآثام(1). ورُويَ في هذا المعنى حديث عن النبيّ أنّه قال: إنّما سُمّي رمضان لأنّ رمضان يرمض الذنوب(2).
2- لا تقولوا رمضان
ورد النهي عن التلفّظ بـ "رمضان"، دون إضافة "شهر" على ما رواه الكلينيّ بسند صحيح عن سعد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام: "لا تقولوا هذا رمضان، ولا ذهب رمضان، ولا جاء رمضان فإنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وهو عزّ وجلّ لا يجيء ولا يذهب، ولكن قولوا: شهر رمضان، فإنّ الشهر مضاف إلى الاسم والاسم اسم الله عزّ ذكره"(3).
وقد حمل العلماء هذا النهي على "الكراهة".
* المقطع الأوّل: مكانته الدينيّة والمعرفيّة
يشير الإمام السجّاد عليه السلام، في المقطع الأول، إلى أربع نقاط حول شهر رمضان:
- الأولى: كمقدّمة لشهر رمضان يبدأ الإمام عليه السلام بالحمد: "الْحَمْدُ لِلهِ الَّذي حَبانا بِدينِهِ، وَاخْتَصَّنا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنا في سُبُلِ إِحْسانِهِ"، فيجب أن نحمده لهدايته وأنّه جعلنا من أهله، فلو لم يكن إرشاده إلى سبيل النجاة لكنّا من الهالكين، وهذا هو سرّ البعثة التي منّ بها علينا الله تعالى حيث قال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ...﴾ (آل عمران: 164).
- الثانية: ذكر الدعاء أنّ من تلك السبل التي نحمد الله تعالى لهدايتنا إليها: "شَهْرَ رَمَضانَ، شَهْرَ الصِّيامِ، وَشَهْرَ الإسْلامِ، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحيصِ، وَشَهْرَ الْقِيامِ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ".
- الثالثة: من علامات أهميّة هذا الشهر نزول القرآن الكريم فيه: "وَشَهْرَ الْقِيامِ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ".
فالقرآن هدى للناس عامّة، وهم غالب الناس الذين هم أهل التقليد ولا يسعهم تمييز الأمور المعنويّة بالبيّنة والبرهان، فالقرآن هدىً لهم.
ولكن مع ذلك كلّه، في القرآن شواهد من الهدى والفرقان لحقّ الخاصة المستكملين من ناحيتي العلم والعمل، فهو يهديهم إليه ويميّز لهم الحقّ ويبيّن لهم كيف يميّز(4).
- الرابعة: أنّه أمرٌ أبان فضيلته تبارك وتعالى على سائر الشهور "بِما جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُماتِ... فيهِ ما أَحَلَّ في غَيْرِهِ إِعْظاماً، وَحَجَرَ فيهِ الْمَطاعِمَ وَالْمَشارِبَ إِكْراماً، وَجَعَلَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً" لا يقدّم ولا يؤخّر، بل فضّل الله لياليه بأن "فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَياليهِ عَلى لَيالي أَلْفِ شَهْر، وَسَمّاها لَيْلَةَ الْقَدْرِ ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر﴾ سَلامٌ دائِمُ الْبَرَكَةِ إِلى طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بِما أَحْكَمَ مِنْ قَضائِهِ".
* المقطع الثاني: في الأمور الواجب المبادرة إليها
يشير الإمام عليه السلام في الدعاء إلى الأمور الأساسيّة التي يجب على الإنسان أن يبادر إليها في هذا الشهر ليدرك فضائله، وهي أربعة أمور:
أولاً: صون الجوارح عن المحرّمات
"وَأَعِنّا عَلى صِيامِهِ بِكَفِّ الْجَوارِحِ عَنْ مَعاصيكَ... وَلا نُسْرِعَ بِأَبْصارِنا إِلى لَهْو، وَحَتّى لا نَبْسُطَ أَيْدِيَنا إِلى مَحْظُور...".
ترك كلّ المحرّمات المتعلّقة بكلّ جارحة من الجوارح ولا نكتفي بترك الأكل والشرب، بل لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، ولا نبسط أيدينا إلى محظور، "وَلا نَخْطُوَ بِأَقْدامِنا إِلى مَحْجُور، وَحَتّى لا تَعِيَ بُطُونُنا إِلّا ما أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنا إِلّا بِما مَثَّلْتَ". وبشكل عام "لا نَتَكَلَّفَ إِلاّ ما يُدْني مِنْ ثَوابِكَ، وَلا نَتَعاطى إِلّا الَّذي يَقي مِنْ عِقابِكَ".
ثانياً: ترك الرياء والسمعة
"ثُمَّ خَلِّصْ ذلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِياءِ الْمُرائينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعينَ".
يجب تخليص كلّ هذه التروك من الرياء والسمعة والشرك؛ وهذه مرحلة التخلية وتتلوها مرحلة التحلية فلا تكون البغيةُ إلى سواه، "وَلا نَبْتَغي بِهِ مُراداً سِواكَ".
ثالثاً: إيتاء الصلاة وغيرها من الفرائض والنوافل
"وَقِفْنا فيهِ عَلى مَواقيتِ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ بِحُدُودِهَا... وَفُرُوضِهَا".
إقامة الصلاة مع حدودها وشروطها ومواقيتها "عَلى أَتَمِّ الطَّهُورِ وَأَسْبَغِهِ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ".
- صلة الأرحام "لأَنْ نَصِلَ أَرْحامَنا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ".
- تعاهد الجيران "بِالإِفْضالِ وَالْعَطِيَّةِ".
- تخليص الأموال من التبعات وما يتبع المال من الحقوق.
- تطهير الأموال من الزكاة.
- مراجعة ومعاودة من هاجرنا "وَأَنْ نُراجِعَ مَنْ هاجَرَنا".
- إنصاف من ظلمنا "وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنا".
- مسالمة من عادانا "نُسالِمَ مَنْ عادانا".
رابعاً: أخذ موضع التبرّي من أعداء الله
"حاشا مَنْ عُودِيَ فيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذي لا نُواليهِ، وَالْحِزْبُ الَّذي لا نُصافيهِ". هذا استثناء من الموالاة والمودّة والمحبة إلى كلّ إنسان بوصفه عبداً ومخلوقاً لله تبارك وتعالى فنحترمه ونكرمه.
فالمسالمة، والمداراة، والمودّة مطلوبة بشكل عامّ، ولكن استُثْني منها العدوّ من دخل في حزب الشيطان من الطواغيت وعبدة الأوثان وغيرهم. فإنّ القرآن يعلن براءته من المشركين في قوله تعالى: ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة:1). ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ (الممتحنة: 1).
ويقسم الحزب إلى حزب الله وحزب الشيطان، يقول تعالى:
﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (المجادلة: 19) في مقابل حزب الله، يقول: ﴿رَضِيَ الَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة: 22).
المقطع الثالث: الدعاء لقضاء الأمور المهمّة
"اللّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هذَا الشَّهْرِ، وَبِحَقِّ مَنْ تَعَبَّدَ لَكَ فيهِ... أن تصلي على محمّد وآل محمّد":
1. التأهيل للكرامة: "وأَهِّلْنا فيهِ لِما وَعَدْتَ أَوْلِياءَكَ مِنْ كَرامَتِكَ"؛ أي اجعلنا أهلاً له.
2. الابتعاد عن الإلحاد والشرك: "وَجَنِّبْنَا الإلْحادَ في تَوْحيدِكَ، وَالتَّقْصيرَ في تَمْجيدِكَ، وَالشَّكَّ في دينِكَ".
3. عتق الرقبة من النار: إعتاق رقابنا من النار، والتصفية من الخطايا والخلاص من السيئات.
4. ملء شهر رمضان وشحنه بالعبادة وتزيين أوقاته بالطاعة، "حتّى لا يَشْهَدَ نَهَارُهُ عَلَيْنا بِغَفْلَةٍ ولا لَيْلُهُ بِتَفْريطٍ".
6. الدخول في عباده الصالحين كلّ العمر: "اللّهُمَّ وَاجْعَلْنا في سائِرِ الشُّهُورِ وَالأَيّامِ كَذلِكَ ما عَمَّرْتَنا، وَاجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ الصّالِحينَ".
روي عن عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه كان يقول: "إنّ لله تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كلٌّ قد استوجب النار، فإذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه"(5).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه تلا: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون: 60)، ثم قال: "ما الذي أتوا؟ أتوا والله الطاعة مع المحبّة والولاية وهم مع ذلك خائفون، ليس والله خوفهم خوف شكّ فيما هم فيه من إصابة الدين، ولكنّهم خافوا أن يكونوا مقصّرين في محبّتنا وطاعتنا"(6).
1- لسان العرب، ابن منظور، ج7، ص161.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج55، ص354.
3- الكافي، الكليني، ج4، ص70.
4- الميزان في تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج2، ص23.
5- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج10، ص317.
6- الكافي، (م.س)، ج2، ص457.