نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الغيب: وحـيٌ وأمـل(*)


سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)


أخبار المستقبل تأخذ حيّزاً كبيراً من اهتمام الناس مع أنّها من الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله. وقد حجب الله تعالى هذه المعرفة عن عامّة الناس رحمةً بهم، لتستقيم الحياة وتسير بشكل طبيعيّ. لكن يُطلع الله تعالى بعض عباده على الغيب لحكمةٍ وهدفٍ.

* مصادر معرفة الغيب
إنّ الطريق الوحيد الموصِل لأخبار المستقبل هو أن يعود الخبر إلى عالِم الغيب وينتسِب إلى الله تعالى، وأن نحصل على الخبر من هذا الطريق. وأهمّ وسيلة في معرفة الخبر هي الوحي. ونحن، كمسلمين، لدينا مصدران مهمَّان على هذا الصعيد: المصدر الأوّل هو القرآن الكريم، والمصدر الثاني هو الأحاديث الشريفة التي وصلت إلينا.

* المصدر الأوّل: القرآن الكريم
المُجْمَع عليه بين المسلمين أنّ ما في القرآن الكريم قد وصلنا يقيناً من الله، لا شكّ فيه ولا ريب، وأنّ كل ما بين الدفّتين هو كلام الله.

وفي القرآن الكريم أخبار من الغيب وأخبار من المستقبل. ولا يقتصر ما ورد في القرآن من أخبار المستقبل على أحداث آخر الزمان، فمنه ما يرتبط بأحداث قريبة من زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لاقتضاء الحكمة.

1- أخبار المستقبل في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:


نقرأ في القرآن الكريم شواهد ثلاثة:
الشاهد الأول: ﴿الم*غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(الروم: 1-5). وقد كان الهدف من هذا الإخبار هو التعبير عن إيمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما ينطق عن الوحي الذي ينزل عليه وتقوية إيمان المسلمين... وغير ذلك. فهذا الإخبار في ذلك الزمان له أغراض وحكم.

الشاهد الثاني: ﴿يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ*سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (القمر: 44-45). فوعد الله المؤمنين بالنصر قريباً وأخبر عن ذلك. كانت أعداد المشركين كثيرة، وعدد المسلمين في المقابل قليلاً، وكان الوعيد من المشركين بالنصر على المؤمنين عملاً دائماً لهم، ولكنّ الله قال ذلك مبكراً في مكّة وهي من جملة الآيات التي تشتمل على التحدّي.

الشاهد الثالث: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح: 27). وقد صدق الله، ودخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون معه مكّة محلّقي رؤوسهم.

2- أخبار المستقبل بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

تعرّض العديد من الآيات القرآنية لأخبار المستقبل بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ونستعرض هنا شواهد ثلاثة:

الشاهد الأوّل: إرادة الله.

يقول الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص:5)، فهذه الآية تبيّن أن إرادة الله الحتمية قد تعلّقت بوراثة المستضعفين للأرض، منَّةً منه وتفضّلاً عليهم بأن يجعلهم قادة الأرض وحكامها.

الشاهد الثاني: وعد الله.
يقول تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون (النور: 55). تحكي الآية عن وعد إلهيّ للصالحين المؤمنين بأنّ الله سيجعلهم خلائف الأرض، وسيمكّن لهم فيحكمون الأرض ويحصلون على الأمن والسلام والدعة دون قلقٍ وخوف.

الشاهد الثالث: الأرض للصالحين.

يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء: 105). الزبور: وهو كتاب داود، وأمّا الذكر فقال بعض المفسّرين إنّه توراة موسى عليه السلام، وقال بعضهم إنّه ينطبق على الكتب السابقة كلّها، وآخرون إنّه اللوح المحفوظ.
إذاً، مكتوبٌ في الزبور أنّ مستقبل الأرض هو مستقبل الصالحين ومجتمعهم ودولتهم.

هذه النصوص القرآنيّة واضحة المعاني والدلالة على أنّ مستقبل البشرية ومستقبل الأرض سيؤول إلى المستضعفين والمسلمين الذين سيحكمون في آخر الزمان وقبل قيام الساعة.

والقرآن الكريم لم يفصّل من سيقيم هذه الحكومة العالمية في آخر الزمان، بل تحدّث عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. والمفسّرون يستعينون بالروايات لتقديم صورة واضحة بأنّ هذا الوعد سيكون في آخر الزمان، على يد الإمام المهديّعجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو الذي سوف يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. وهو من وُلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من وُلد فاطمة عليها السلام، وبهذا المضمون روايات كثيرة عند الشيعة والسنّة.

* المسيح من العائدين

نحن المسلمون كذلك نعتقد بعودة السيّد المسيح عليه السلام إلى الأرض، ليحقّق مع المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وراثة المؤمنين المستضعفين الصالحين للأرض في هذا العالم. وستبنى على هذه الأرض دولة السلام والعدل والرفاه. وهذا ما يشير إليه المصدر القرآنيّ أيضاً.

المصدر الثاني: الروايات وأخبار المستقبل
أمّا المصدر الثاني، فهو الأحاديث الشريفة المرويّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال الذي له علاقة بأخبار المستقبل والمغيّبات وآخر الزمان، حيث توجد مئات الروايات والأحاديث، بل آلاف الروايات، بناءً على بعض العلماء وفي بعض الكتب يُطلق على أخبار المستقبل تسمية "الملاحم والفتن". والمقصود بها أخبار المستقبل. وفي الأزمنة الأخيرة قام بعض العلماء بجمع الروايات المتّصلة بشكل أو بآخر بالمهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ضمن مجاميع روائيّة.

* تصنيف الروايات
إنّ هذه الروايات يمكن تصنيفها ضمن مجموعات ثلاثة:
المجموعة الأولى: أخبار المستقبل والمغيّبات التي لم يتمّ ربطها بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وبدولة آخر الزمان.

المجموعة الثانية: أخبار المستقبل والمغيّبات التي تمّ ربطها بالإمام المهديّعجل الله تعالى فرجه الشريف.
ففي بعض الروايات ورد أنّه لن يكون هذا الأمر (الظهور) قبل أن يكون كذا وكذا.

المجموعة الثالثة: أخبار المستقبل والمغيّبات المتضمّنة لتحديد زمانيّ، فتأتي على ذكر أحداث متّصلة بقيام الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف مع تحديدها زمنيّاً، في شهر رمضان، أو في سنة واحدة. وهذا النوع من الأحداث يسمّى بأحداث متزامنة ومراهقة للظهور، وهذه العلامات تسمّى بـ"العلامات الخاصّة".

والملاحظ أنّ فهم هذه الروايات والاستفادة منها قد يتمّ بشكل صحيح وقد يتمّ بشكل خاطئ.

* فائدة الاطّلاع على أخبار المستقبل في القرآن والروايات
ما هي فائدة الاطّلاع على أخبار آخر الزمان وعن علاماته؟ عندما يخبرنا الله عن الغيب ويخبر به أنبياؤه فإنّ في ذلك حكمة ورحمة وهدفاً.. وقد نكتشف ذلك وقد لا نكتشفه.

الفائدة الأولى: التصديق بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
أمّا الفائدة على المستوى العقائديّ من متابعة هذه الأحاديث والتثبّت منها والتأكّد من صحّتها فترجع إلى تصديق الأنبياء؛ لأنّ من معاجز الأنبياء الإخبار عن الغيب. وقد نُقل عن نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كمٌ هائلٌ من الأخبار المتعلّقة بالمستقبل. وهذا دليل على صدق هذا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وسعة علمه صلى الله عليه وآله وسلم ما يزيدنا إيماناً بنبوّته صلى الله عليه وآله وسلم.

الفائدة الثانية: الأمل بالمستقبل
يعيش الناس اليوم حالة من الضغط النفسيّ أكثر من أيّ وقت مضى، لأننا اليوم، وعبر الفضائيات ووسائل الاتّصال، نسمع الأحداث ونتأثّر بها، ما يسبّب لنا ضغطاً نفسياً.

وعندما يفقد الإنسان الأمل، فإنه سينهزم ويتقاعس. لذا، فإن وجود الأمل -وهو الأمل الإلهيّ بأنّه سيأتي زمان يحكم فيه المؤمنون المستضعفون العادلون ويقيمون السلام العالميّ والرخاء العالميّ ويفتحون أبواباً للعلم لم يصل إليها أحد- يشدُّ عضد الإنسان ويخلق عنده العزم والإرادة والتصميم على العمل، للتهيئة وللتحضير لهذا الأمل.

الفائدة الثالثة: التمهيد للظهور
إنّ انهيار الطواغيت والجبابرة وقيام حكومة الصالحين المؤمنين المستضعفين في الأرض، لهو حدث تاريخيّ وعالميّ غير مسبوق، ولا يتحقّق في لحظة. والبشرية تحتاج إلى التحضير والتهيئة لحدث عالميّ بهذا الحجم، يمثّل حلم الأنبياء. لذا، من الضروريّ وجود مؤشّرات وعلامات ودلائل ولا يمكن أن نستيقظ فنجد أنّ الطواغيت كلها قد سقطت ودولة العدل قد قامت فجأة، لأنّ البشر هم أدوات تحقيق دولة العدل الإلهيّ.

فوظيفة هذه العلامات التمهيد النفسيّ والثقافيّ والتهيئة والتحضير. ففي قصة موسى عليه السلام ونبوّته كان الانتظار سمةً لبني إسرائيل لمئات السنين، فتحمّلوا العذاب والاستعباد من قبل الفراعنة، ولكنهم كانوا يعيشون الأمل.

وكذلك الحال مع السيّد المسيح عليه السلام ومع نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم الذي ذُكر في كتب اليهود وكان معلوماً عندهم، وكانوا يترصّدون ولادته. وهذا الأمر كان معلوماً عند المسيحيّين أيضاً.

وبهذا نصل إلى أنَّ قيام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وعودة السيّد المسيح عليه السلام إلى الأرض، لا يتحقّق فجأة دون مقدّمات وتمهيد واستعداد نفسيّ وروحيّ وثقافيّ وفكريّ وميدانيّ وبشريّ، ودون انتظار إيجابيّ وجدّيّ وحقيقيّ، لأنّه ليس المطلوب من السيّد المسيح عليه السلام أن يرجع إلى الدنيا ليتآمر عليه اليهود من جديد، ولا المطلوب أن يقوم المهديّ عليه السلام ليخذله الناس كما خذلوا جدّه أبا عبد الله الحسين عليه السلام، لتكون كربلاء جديدة وشهادة جديدة، بل المنتظر أن يكون هناك أنصار ومؤمنون يرثون الأرض، حينها يأذن الله لأوليائه بالحركة والخروج.
فقد مضت مئات السنين ولو لم يكن هناك أيّة علامة، فإنّ هذا الأمر سيؤدّي بنا إلى الإحباط.

* وظيفتنا مع العلامات
ولكن نحن يجب علينا أن ننتظر العلامات مع مواصلة الأمل، فليست هي التي تصنع الحدث، فالله سبحانه وتعالى في مشيئته وضع معطيات ووقائع وظروف لتحقيق هذا الوعد الإلهيّ. وجزء كبير من هذه الظروف هي مسؤولية البشرية، ولكنّ العلامات تدلّنا على قرب المسافة، وهي تعطينا مؤشراً ورؤيةً وبصيرةً نمشي بها على هدى، والمستقبل يصبح أمامنا واضحاً، وهذا شرط أساس للفوز والنجاح.


(*) خطبة من ليالي عاشوراء، ألقاها سماحته بتاريخ: 1/11/2014.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع