آية الله جوادي الآملي
* الأسوة القرآنية
ذكرنا في الحلقات السابقة أن الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى السعادة بون المرشد الغيبي، فوجود الهداة لازم لتكامل الإنسانية.
وحتى هذا الكتاب الشريف الهادي الذي هو القرآن الكريم لا يكتفي بمجرد الأوامر والتعاليم الكلية، بل إنه يستعرض أسوة عينية ونماذج واقعية يطلب من الناس أن يتّبعوها، هذه الأسوة والقدوة تتمثّل بالأنبياء والرسل الإلهيين. ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر﴾ (الأحزاب- 21)
فرجاء الله ينبغي أن يكون باتباع النبي لأن الرجاء بدون اقتداء يبقى بلا ثمر، وإذا لم يتواءم مع الطريق والنهج وإعداد المقدمات فسوف يكون فارغاً وجافاً وبلا روح.
* القرآن ينفي الأماني بدون العمل ويقول:
﴿ليس بأمانيكم..﴾
لأن العمل لا يتقدم بالأماني والآمال فقط، فإذا أردتم أن ترجوا الله يجب عليكم أن تقتدوا بالرسول. وكيفية الاقتداء واضحة أيضاً: فالذي يقتدي بالرسول يعتقد بالقيامة والسعادة والحياة الأبدية، ومثل هذا الإنسان يبقى ذاكراً لله دوماً:
﴿وذكر الله كثيراً﴾.
فالأسوة القرآنية هي الإنسان الكامل، والنبي هو النموذج الكامل للإنسان الذي نال التربية الإلهية، ولهذه الجهة يأمر القرآن بأتباعه.
كما ويعتبر القرآن أن طريق الوصول إلى الكمال هو العلم والإيمان والعمل الصالح. ولأن الرسول هو المالك لهذه الأصول الثلاثة على أكمل وجه، فإنه يدعو الناس إلى أتباعه.
فيعرف القرآن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخلق العظيم: ﴿وإنه لعلَى خلق عظيم﴾ (القلم- 4)
(الملفت أن الله تعالى يعد كل متاع الدنيا قليلاً: ﴿قل متاع الدنيا قليل﴾ ولكن أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم عظيمة).
ولهذا فإن الله تعالى يعتبر الإنسان ذا الأخلاق الحسنة صالحاً ليكون قدوة وأسوة.
ما سنقوم به الآن هو دراسة كل واحد من هذه الأصول الثلاثة الموصلة للكمال:
* الأصل الأول: المقام العلمي
يأمر الله تعالى رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر:
﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً﴾ (طه - 114).
فالإنسان الذي يظن أنه لم يعد بحاجة إلى العلم في لحظة واحدة فإن هذه اللحظة تكون لحظة الجهل.
وهنا ينبغي الالتفات إلى نقطة مهمة وهي: بما أن الله تعالى أمر بطلب الازدياد من العلم، فإن هذا الدعاء مستجاب، وإلا فإنه لا يأمر بطلبه، وكما أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بهذا الدعاء حتى آخر حياته فنحن مأمورون أيضاً بالاقتداء به وبطلب العلم حتى آخر حياتنا.
وكما أن أخلاق النبي عظيمة، فإن علمه أيضاً ينسجم مع ذلك الخلق العظيم وإلا لكان بلا فائدة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "رُبَّ عالمٍ قد قَتَله جهلُه وعلمُه معَه لا ينفعُه".
مثل هذا العلم لا يكون منوِّراً ولا موضحاً، لأنه ليس متوائماً مع الأخلاق، لهذا ينبغي الاقتداء برسول الله وترك ما عداه.
الإنسان يسافر إلى جنب الله، ولكن نفس هذا السفر وهذه الحركة لا يمكن أن تكون هي المقصد والهدف. لأن المقصود من السير هو الذهاب إلى الله، ولأن الهدف هو الكمال. ولا يمكن أن يصل إلى الهدف إلا من كان له هادٍ وقائد، ويلزم لهذا القائد أن يكون عارفاً وخبيراً بالطريق.
القرآن الكريم يعرِّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بأنه العالم والواعي الذي لا يسير على ضلالة
﴿والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى﴾.
فالضلالة هي التنكّب عن الطريق، والغواية تعني عدم الهدفية. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرف كيف يهدي قافلة البشرية نحو منبع الكمال والسعادة، لأنه يعرف جيداً جهة الخلقة وأيضاً هدف الخلقة (الوصول إلى الكمال)، فاقتدوا به، لأن العقل كما قلنا لا يكفي وحده لسعادة البشر.
* مسير الإنسان والهادة الإلهيون
الإنسان باق إلى الأبد ولا يفنى، ولكنه ينتقل من عالم إلى عالم، ولهذا ينبغي أن يطلّع على الأبدية ويستعد للشيء الأبدي الذي لا يفنى حتى يطَّلع على أسرار وخصوصيات وكيفيات يوم القيامة
﴿يوم تبلى السرائر..﴾، وهذا غير ممكن بدون الهداة الإلهيين.
في المجتمعات الشيوعية عندما طرح القانون المتحلل من الوحي، أصبحت الحياة عندهم بسبب استنادهم إلى هذا المنطق الخاطئ:
﴿إن هي حياتنا الدنيا نموت ونحيى..﴾.
ليست إلا شيئاً مادياً، وبعد الموت لا يوجد شيء آخر. فلا حقيقة عندهم لما وراء عالم الطبيعة بينما القرآن في منطقه يقول عكس ذلك:
﴿فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل﴾ (التوبة- 28).
إذ أن قيمة الإنسان تبدأ بعد الموت. وهناك يدخل إلى مرحلة الأبدية والعالم الدائم، ولهذا ينبغي أن ينشط لتلك السعادة، وعليه أن يستلهم من الوحي والهداة الإلهيين حتى يعلم لماذا خلق وكيف يسعى نحو ذلك الهدف.
أحد هؤلاء الكاملين وهو أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "لو كُشِف لي الغطاء ما ازددت يقيناً".
فهؤلاء مطلعون على أسرار ما وراء عالم الطبيعة، ويعلمون في طريق الوحي والإلهام ما يدلهم على السعادة الحقيقية، فأصبحوا بذلك الهداة الحقيقيين الذين ينبغي اتباعهم والسير على خطاهم.
* أبعاد الهداة الربانيين
يحدد الله لنا لأجل التعرف على رسول الله بشكل أفضل أبعاد قيادته ويقول:
1- أنه معصوم ومنزه عن الخطأ والاشتباه.
2- عالم ويأخذ علمه من الله.
3- يضبط ما يوحى إليه من الله ويؤديه جيداً.
واستناداً على ذلك فإن أبعاد القيادة لها ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: التلقي وأخذ العلم الذي ينبغي أن يتم بصورة صحيحة وبدون أي خطأ، يقول القرآن الكريم:
﴿وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين﴾ (الشعراء- 193).
اللحظة التي يظن الإنسان فيها أنه لم يعد بحاجة إلى العلم تكون لحظة جهل فما يتلقاه الرسول هو من الملك الأمين الذي لا يخون أبداً ولا يزيد ولا ينقص.
وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم: ﴿إنك لتّلقى القرآن من لدن حكيم عليم﴾ (النمل- 6). وهذا دليل يؤكد على صحة تلقي الرسول من الله تعالى.
والعلم اللدني بهذا المعنى أيضاً، لا أنه علم مقابل العلوم الأخرى، لأن الإنسان قد يفهم أحياناً المعارف الإلهية بالتفكر، وأحياناً عن طريق الباطن واكتساب الصفات المعنوية التي تصل إلى حد يتلقى فيه الإنسان العلم مباشرة من الله وهذا هو معنى العلم اللدني. اللدن تعني عند، العلم اللدني هو الذي يأتي من نبعه مباشرة. كالماء الذي يخرج من العين، يبقى صافياً وزلالاً، أما العلوم الباقية فهي مختلطة ومن الدرجة الثانية.
المرحلة الثانية: مرحلة الضبط والحفظ، وهذه الصفة كانت بنحو أكمل في النبي. يقول تعالى في سورة الأعلى:
﴿سنقرئك فلا تنسى﴾.
فالنسيان لا يتطرق لساحة النبي. كما أن الله تعالى بالأصالة وبالذات لا ينسى: ﴿وما كان ربك نسياً﴾ (مريم- 64).
كذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فمن تكون إضافته من الله لا ينسى، فهذه إحدى الفيوضات الإلهية عليك: إن ذاكرتك قد صينت من النسيان.
ولو قال أحد إن الرسول لا ينسى ولكنه يخطئ نجيبه: بأن من لم يبلِّغ حكم الله كما هو يكون قد نطق عن الهوى، وسورة النجم تنفي هذا الأمر عن الرسول:
﴿وما ينطلق عن الهوى...﴾.
المرحلة الثالثة: عصمته في مراحل التبليغ والبيان بعد التلقي والضبط ونفس تلك الآية شاهد على ذلك. وأيضاً الآيتان 26 و27 من سورة الجن:
﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم﴾.
فما يصل إلى الناس هو نفس كلام الله بدون زيادة أو نقصان وبهذا تتم الحجة ويصل الوحي إلى الناس. ويأتي كلام الحق:
﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة﴾ (الأنفال- 42).
يتبع
* الخلاصة:
● الرسول يتلقى المعارف من الله بدون زيادة أو نقيصة ويحفظها بكل أمانة وصدق ويبلغها للناس.
● رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول القدوة الذي ينبغي أن نتخده كقدوة وأسوة لنا في مقام العلم والعمل ونستفيد منه ومن نور الوحي والقرآن والهداية.
■ أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران على نبينا وآله وعليه السلام:
أتدري لم رزقت الأحمق:
قال: لا يا رب،
قال: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال.