نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناجاة المريدين (9): فأنتَ لا غيرُك مرادي

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)

يتحدّث المقطع الأخير من دعاء مناجاة المريدين للإمام السجاد عليه السلام عن أنّ الهدف النهائيّ والأعلى للإنسان هو القرب والوصول إلى الله، الذي هو أعلى من اللذائذ الدنيوية، وحتّى أنّه أعلى من اللذائذ الأخروية. وهو هدف، لا يجد الإنسان بعد الوصول إليه أيّ حجاب أو حائل بينه وبين الله، لا بل يجد نفسه بالكامل إلى جوار الله وفي محضره.

*مراتب القرب إلى الله
وللقرب إلى الله تعالى، الذي هو الهدف الأفضل، مرتبتان:
1- المرتبة الأدنى للقرب إلى الله والاستفادة من المقامات التي هي من لوازم القرب. هنا يستفيد الإنسان من نِعَم الجنّة، ويكون المطلوب الأساس للإنسان، ليس القرب إلى الله، بل إلى تلك النعم.
2- المرتبة الأعلى التي يكون الهدف والغاية فيها، القرب إلى الله والرضوان الإلهيّ. تشكّل هذه المرحلة أوج محبّة العبد الواصل لمعبوده. وليس شيء أهمّ للعبد الواصل هنا من الرضوان الإلهيّ.

ثمّة شخص يعقد صداقةً مع آخر ليستفيد من موقعه والإمكانيّات الموجودة بين يديه، لذلك يجعل صداقته وسيلة للوصول إلى مصالحه. وفي المقابل هناك من يعقد صداقةً مع آخر انطلاقاً من المحبة والعلاقة به حتّى أنّه يكون مصرّاً على هذه الصداقة حتّى لو لم يحصل على أيّ منفعة منه، فصاحبها قد جعل الصداقة أصلاً ولم يجعلها وسيلة للوصول إلى المصالح الخاصة.
تحدّث بعض الروايات حول الصداقة الخالصة مع الله تعالى، وأنّها مجرّدة عن أيّ دوافع نفسانيّة ومنفعيّة، وأشارت الروايات إلى أنّ الدافع والمنفعة في هذا النوع من الصداقة، عبادة الله تعالى.

فعن الإمام الصادق عليه السلام : "العُبَّاد ثلاثة: قومٌ عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقومٌ عبدوا الله عزّ وجلّ حُبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة"(1).

*الأسوة الحقيقية للباحثين عن الله تعالى

إنّ هذه المناجاة لا تتحدّث عن النِعَم العادية في الجنّة، أمثال الحور العين، القصور والأطعمة، بل كان الحديث فيها عن القرب الإلهي، رضى الله، لقاء المعبود والأنس به والتلذّذ من مناجاة خالق الجمال، وكل ذلك لتحدّثنا المناجاة عن عباد الله الخواصّ أصحاب الهمم العالية. ومن جهة أخرى، وضعت هذه المناجاة بين أيدينا صورة عن النماذج والأسوة.

يذكّرنا الإمام عليه السلام أنّ القدوة والأسوة بالنسبة لنا ولعباد الله، ليست الأشخاص الذين عبدوا الله بهدف الوصول إلى نِعَم الجنة، وليست الباحثين عن اللذائذ الأخرويّة، بل القدوة والأسوة التي لا بديل عنها، هي الأشخاص الذين وصلوا إلى معرفة الله الخالصة والذين كان لهم نصيب من زمزم صفات الجمال والجلال الإلهيّ.

الذين لا يبحثون عن شيء سوى لقاء الله والأنس به، يرضخون لكلّ لوازم رضى المحبوب حتّى لو كان رضاه يتطلّب الحرمان من الجنّة والاحتراق بنار جهنّم. الواضح أنّ الذين انتقلوا إلى المعبود بالكامل يتمتّعون بأعلى وأخلص الفيوضات والألطاف الرحمانيّة. هؤلاء لا يمكن أن يكونوا عُرضة للعذاب الإلهيّ. وإنّ أوج تعاليهم وكمالهم هو في وصال المحبوب.

طبعاً، نحن نشاهد في الحياة الدنيا مظاهر رقيقة وباهتة من تلك المحبّة وذاك العشق. من جملة ذلك، محبّة الأمهات لأبنائهنّ التي لا يعتريها أيّ شائبة حيث إنّ وجودهنّ يفيض بمحبّة أبنائهنّ. فالأم تكون عطوفة على الأبناء حتّى لو كانوا غير عطوفين عليها. إنّ الذين تذوّقوا طعم محبة الأم لولدها هم الذين يتمكّنون من معرفة وإدراك عظمة محبّة أولياء الله، الذين حملوا في هذه المناجاة لقب "المريدين"، لمعبودهم.

*ماذا يطلب المريدون من مرادهم؟
فهؤلاء فتحوا باب محبّة الله أمام أعينهم فقط، وطلبوا من الله أن يأخذ بأيديهم وأن يوصلهم إلى الفيض الإلهيّ عبر أقصر الطرق وأقلّها خطراً.

"أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ أَوْفَرِهِمْ مِنْكَ حَظّاً، وَأَعْلاهُمْ عِنْدَكَ مَنْزِلاً، وَأَجْزَلِهِـمْ مِنْ وُدِّكَ قِسَمـاً، وَأَفْضَلِهِمْ فِي مَعْرِفَتِكَ نَصِيباً، فَقَدِ انْقطَعَتْ إلَيْكَ هِمَّتِي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتِي، فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَراحَتِي، وَعِنْدَكَ دَوآءُ عِلَّتِي، وَشِفآءُ غُلَّتِي، وَبَرْدُ لَوْعَتِي، وَكَشْفُ كُرْبَتِي. فَكُنْ أَنِيْسِي فِي وَحْشَتِي، وَمُقِيلَ عَثْرَتِي، وَغافِرَ زَلَّتِي، وَقابِلَ تَوْبَتِي، وَمُجِيبَ دَعْوَتِي، وَوَلِيَّ عِصْمَتِي، وَمُغْنِيَ فاقَتِي، وَلا تَقْطَعْنِي عَنْكَ، وَلا تُبْعِدْنِي مِنْكَ يا نَعِيمِي وَجَنَّتِي، وَيا دُنْيايَ وَآخِرَتِي، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ".

*أوج نجوى روح العبد الواله والواصل مع معبوده
يمتزج القسم الأخير من المناجاة بشيء من المغازلة. يطلب الإمام عليه السلام من الله تعالى في نجواه أن يجعله من سالكي طريق الكمال والقرب إليه، بل يطلب منزلةً ومقاماً أعلى من ذلك وأن يعطيه أعلى مراتب المحبّة والعرفان بالله. ثمّ يوضح حاله بالنسبة لمعبوده ومعشوقه فيكشف النقاب عن سرّ القلب الواله أسير الجلوات الرحمانية، ويقول: "فَقَدِ انْقطَعَتْ إلَيْكَ هِمَّتِي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتِي"(2). الإنسان يتعلّق بشيء بالأصالة، ثم تكون علاقته ومحبته للوازم ومقدّمات ذاك الشيء من الأمور الفرعية التابعة لتلك العلاقة الأولى. وقد تكون محبة وعلاقة الإنسان شديدة بحيث يصبح توجّه الإنسان بأكمله محصوراً في المحبوب وتكون محبة الغير في شعاع محبة المحبوب. بمعنى أنّه لا يمكن الحديث عن غير المحبوب حتّى لو كان الغير تابعاً، حيث تكون محبته تابعة لمحبة المحبوب، بل محبة الإنسان الكاملة تتوجّه نحو المحبوب ثمّ يصل إشعاع محبة المحبوب إلى المقربين الحقيقيّين في هذا الشعاع.

نحن نهتمّ في الحياة الدنيا بأمور عديدة. وليس صحيحاً أننا نركز الاهتمام على شيء واحد. أما الإمام عليه السلام الذي يمتاز كلامه ببعده التعليميّ للآخرين فيقول: "فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي...". وهذا يعني أنّ الإمام عليه السلام قد وصل إلى مرتبة من الكمال والتعالي والقرب إلى الله بحيث لا يمكن أن يتجلّى له غير المعبود الذي يأخذ بقلبه. وعلى أساس هذه المرتبة من التعالي والكمال يريد من الله تعالى أن يكون نصيبه من معرفته أفضل من الآخرين.

"فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي(3)، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي". إنّ هدفي هو عشقك وعملي لكسب رضاك.
"وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَراحَتِي، وَعِنْدَكَ دَوآءُ عِلَّتِي، وَشِفآءُ غُلَّتِي، وَبَرْدُ لَوْعَتِي، وَكَشْفُ كُرْبَتِي".

ثم يتابع الإمام عليه السلام في نهاية المناجاة: "فَكُنْ أَنِيْسِي فِي وَحْشَتِي، وَمُقِيلَ عَثْرَتِي، وَغافِرَ زَلَّتِي، وَقابِلَ تَوْبَتِي، وَمُجِيبَ دَعْوَتِي، وَوَلِيَّ عِصْمَتِي، وَمُغْنِيَ فاقَتِي، وَلا تَقْطَعْنِي عَنْكَ، وَلا تُبْعِدْنِي مِنْكَ".


1.الكافي، الكليني، ج2، ص84، ح5.
2.الهمّة هنا بمعنى العلاقة والميل والعزم والإرادة.
3.يطلق "واله" و"وله" على مرتبة المحبة التي تؤدّي إلى الحيرة. وأما المرتبة الأعلى من الوله فهي "الهيام"الذي يطلق على العاشق المجنون في البحث عن محبوبه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع