آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
تقديم النماذج
بعد دفع الشبهات من جميع الجهات يستخدم
القرآن الكريم أيضاً أسلوباً آخر وهو التذكير
بوقائع تشبه كثيرا عالم الآخرة.
والالتفات إلى هذه الحوادث - بالنسبة إلى الذين شاهدوها بأم أعينهم أو سمعوا بها
فيما بعد – يهيئ الأرضية لقبول المعاد.
ومن جملتها قصة أصحاب الكهف، والكل يعلم تفصيل القضية، ونؤكد هنا على ملاحظة يهتم
بها القرآن الكريم، فهؤلاء بعد أن اختفوا في الغار وقضوا فيه فترة طويلة تقدر
بثلاثمئة وتسع سنين حسب السنين القمرية وثلاثمئة سنة بالسنين الشمسية كانوا خلالها
نائمين، استيقظوا فأحسوا بالجوع وذهبوا إلى المدينة فوجدوها قد تغيرت عما كانت عليه،
ووقع الناس في بلبلة حولهم فاقتربوا منهم وعرفوهم... وفي ذيل الآية يقول تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾
الكهف/21. فالنوم أخو الموت، والذي يستطيع الاحتفاظ بهؤلاء أحياء ثلاثمئة
سنة من دون ماء وغذاء ومن دون تدخل العوامل الطبيعية فالإنسان بعد يومين أو ثلاثة
من النوم يستيقظ من شدة الجوع وإلا فإنه سيتجرع الموت فإنه يستطيع إحياء الجميع
أيضا بعد الموت. والنموذج الآخر قوله تعالى:
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
البقرة/ 255 - 256. فهل هناك علاج آخر سوى الصاعقة للذين شاهدوا كل تلك
المعجزات من موسى عليه السلام؟ فقد جاءت الصاعقة وأهلكتهم، ثم طلب موسى عليه
السلام من الله سبحانه أن يعيد الحياة إليهم فأحياهم مرة أخرى. إنها من أوضح الآيات
على إحياء الموتى.
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ
عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾
البقرة/259.
توضيحات حول هذه الآية:
بالنسبة ل"أو" في مطلع الآية يقول العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه: إنه
عطف على معنى الآيات السابقة، فقد ذكر من قبل إن عبادنا الصالحين نهديهم بأية صورة
ونبين لهم طريق الحق، ومن جملتها قصة إحياء بني إسرائيل الواردة في الآية السابقة،
وشواهد أخرى... ومنها أيضا هذه القصة: أو كالذي مر... أما من هو هذا الشخص؟ فإنه لم
يذكر اسمه في القرآن الكريم إلا أن بعض الروايات المشهورة تقول إنه "عُزير" من
أنبياء بني إسرائيل، وفي البعض الآخر إنه "إرميا". على قرية: يبدو أنه كان مسافراً
فوصل إلى قرية مهدمة أو مر بمقبرة وشاهد عظام الموتى ويحتمل أنهم لم يدفنوا وكانت
عظامهم بارزة فخطر في ذهنه أن هؤلاء كيف يتم إحياؤهم مرة أخرى؟ خاوية: وهي قريبة
لمعنى "خالية"، فالخواء بمعنى الفراغ الداخلي. العرش: وهو السقف بالنظر إلى أسسه،
مثل العرش يصنع من أشجار العنب كقوله: جنات معروشات وغير معروشات. فإذا انهارَ هيكل
البناء فإنه يقال للقرية إنها: خاوية على عروشها. أنى يحيى هذه الله: إن هذه الجملة
علامة على التعجب وليس على الشك والترديد، وذلك لأن الترديد يظهر في ذهن من ليس له
اعتقاد بالمعاد ومن المعلوم إن المعاد من أصول عقائد كل مؤمن فضلاً عن عزير أو
إرميا اللذين كانا من الأنبياء وقد كلمهم الله سبحانه. ولعله تذكر الموت فقال بلسان
الحال: أنى يحيى هذه الله؟ ولكي يرفع عنه الله هذا التعجب فقد أراه الإحياء بعد
الإماتة فأماته بنفسه ثم أحياه بعد مئة عام. فهل كان يعرف أن مئة عام قد مرت عليه؟
يبدو من الآية أنه لم يعرف ذلك ولهذا قال في جواب الله:
﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ﴾. أي
في عالم البرزخ لا يفهمون مرور الزمان، وبالقرائن فحسب يدركون أنه قد مر عليهم يوم
أو بعض يوم. يقول العلامة الطباطبائي نحن نفهم من خلال جوابه أن الساعة من اليوم
الذي مات فيه تختلف عن الساعة التي أحيي فيها. ومن الواضح إنه قد حدس من حركة الشمس
أنه قد لبث في حدود يوم واحد.
ولعله تخيل أنه كان نائما خلال هذه الفترة، ولكي يتضح له الواقع أمره تعالى بالنظر
إلى غذائه من ناحية ليتبين أنه لم يفسد، وإلى دابته من ناحية أخرى كيف تحولت عظامها
إلى تراب. ولو لم يكن حماره بهذا الشكل فلعله لا يفهم أنه قد مات منذ مئة سنة. ثم
بعد أن أحياه الله فقد أحيى حماره أمام عينيه حتى يقتنع بأن الله يستطيع حفظ
الأشياء كالطعام والروح ثم يعيده إلى البدن في المعاد ويستطيع أن يميت شيئا ثم
يحييه مرة أخرى. وأما أنه لماذا ذكر الجملة المعترضة "لنجعلك آية للناس" في الأخير،
فلعل الغرض منه هو كون عزير بنفسه آية للناس لأن الناس قد عرفوه ولكن الغرض من
إحياء الحمار هو تفهيم الأمر لعزير نفسه، ولهذا فإنه قبل البحث في إحياء الحمار
يقول لنجعل إحياءك آية للناس. والإتيان بواو العطف لإفهام هذا المعنى وهو إن في هذا
الفعل حكما أخرى أيضا وكأنه قال: "لعلل ولنجعلك.." فهذا أيضا هدف من الأهداف. وقال
تعالى:
﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ
﴾ ولم يقل وانظر إلى الحمار. يقول العلامة الطباطبائي
رحمه الله: إنه أدب القرآن الرفيع الذي لا يذكر به الإنسان إلى جانب الحمار وإنما يقول بصورة
مبهمة أنظر إلى العظام كيف نركب بعضها على بعض ثم نكسوها لحما. وحينما شاهد هذا
الأمر قال
﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ولم يقل علمت، والسر في ذلك أنه لم يكن شاكاً ثم علم حتى يقول علمت وإنما طرأت
خلجات على ذهنه بالنسبة لشيء كان ثابتاً عنده ثم يرى أن الواقع هو ما كان يعرفه من
قبل فيقول "أعلم".
وعلى أي حال فإن الشخص المقصود في الآية لما كان نبيا فإن لديه علما بذلك من قبل،
والشيء الوحيد الذي حدث هو أنه قد تعجب ثم زال منه العجب فانتقل من علم اليقين إلى
عين اليقين. ولو كان غير ذلك للزم أن يقول:
"فلما تبين له قال: الآن علمت"، هذا هو
ظاهر الآية الكريمة، وقد فسرها المفسرون بهذه الصورة، وأيدت ذلك الروايات أيضاً سوى
بعض الخصوصيات فيها فذكرت أن هناك موجودين أحدهما إنسان والآخر حيوان ذهبا من هذه
الدنيا ثم تم إحياؤهما بعد مئة عام، وقد شاهد هذا الأمر أحد الأولياء بأم عينيه.
لكن بعض المفسرين الذين ضعف إيمانهم بالمعجزة وخوارق العادة يقول: إن الموت في
الآية ليس حقيقياً والمقصود به حالة تشبه الإغماء، وهذا الأمر قد يحدث أحياناً فيغمى
على الشخص مدة طويلة، فالتعبير بالموت مجازي. ونسأل هذا المفسر: أكان هذا المغمى
عليه خلال هذه الأعوام الطويلة يأكل الطعام ويتنفس ويصل الماء إلى جسمه أم لا؟ إن
كانت هذه الأشياء تصل إليه فمن الذي يوصلها إليه؟. أكانت هناك ممرضة تقوم بشؤونه
وتعتني به ولا بد أن نعترف حينئذ بوجود مستشفى ليتم ذلك بشكل طبيعي، أم إن هذا
الحادث غير عادي؟. حسب الظاهر إنه لا بد من التسليم بأنه كان غير عادي، وعندئذ ما
الفرق بين هذا وما قاله المفسرون؟ ولماذا نصرف اللفظ عن صراحته لنقول إنه كان مغمى
عليه؟ ويقولون بالنسبة للحمار يقول
القرآن: وانظر إلى حمارك. فلم يقل إنه مات ونحن
أحييناه. وفي جواب هؤلاء نقول: لا داعي لكل هذه التأويلات في الآية لأنها تذكر
بوضوح:
﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا
لَحْمًا﴾. فماذا يعني هذا؟. فجواب
القرآن يتناسب مع سؤال ذلك النبي، وقد كان سؤاله: أنى يحيى هذه الله بعد موتها؟
ويتناسب مع هذا السؤال أن يتم إحياء الحمار مرة أخرى. وعلى كل حال فإن هذا الأمر
كان غير عادي وهو علامة على قدرة الله تعالى. والقصة الأخرى هي:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيم﴾
البقرة/260.
ويفهم من الآية أن الإيمان يختلف عن اطمئنان القلب، فالاطمئنان يعني عدم وجود أي
اضطراب في القلب، بينما من الممكن أن يوجد شخص مؤمن وهو مع ذلك يسأل: "أمن
الممكن..؟". كما نلاحظ أحيانا حوضا من الماء مليئا، والماء الأسفل ثابت فيه لكن
سطحه الظاهر تبدو فيه بعض الأمواج، بينما هناك أحواض أخرى تكون سطوحها كالمرآة
خالية من أي موج واضطراب. وقد ورد في بعض الروايات إن اطمئنان القلب شيء آخر، وقد
روي ذلك عن الإمام الرضا عليه السلام (1) حيث إن علي بن الجهم ينقل أن المأمون سأل
الرضا عليه السلام عن تفسير هذه الاية بأن الأنبياء معصومون وليس لديهم شك فلماذا
يطلب إبراهيم مثل هذا الطلب، ألم يكن مؤمنا؟ فأجاب الإمام عليه السلام : "إن الله
أوحى إلى إبراهيم إنني أريد أن أوصل شخصا من عبادي إلى منزلة "الخليل" وعلامة خلته
أنه كلما دعى استجبت دعوته وحتى لو طلب مني إحياء ميت، فحدس إبراهيم أنه هو ذلك
الشخص وأراد أن يطمئن إلى ذلك فطلب ذلك الأمر"(2). وتتعرض بعض الروايات لأسماء
الطيور وقد ذكر الطاووس فيها جميعاً. وتقول بعض الروايات إن الطيور هي الطاووس
والديك والحمام والغراب. وتقوم بعض الروايات الأخرى بتأويلات لكل واحد من هذه
الطيور، ونحن نعترف بجهلنا ونقول بصراحة إننا لا نفهم منها شيئا. ونقول إجمالا إنها
كانت طيورا وقد تكون من نوع واحد، ولا يبدو من الآية شيء أكثر من هذا. ولا يمكن أن
يستفاد شيء بوضوح من الروايات وهي تختلف بالنسبة إلى الجزئيات التي ذكروها. وهناك
كلام كثير حول كلمة "صرهن". سواء أكان في معناها أم متعلقها وهو "إليك"، أم في
التناسب بين المتعلِّق والمتعلَّق. وينطق هذا اللفظ بشكلين بكسر الصاد وضمها.
فالأول من "صاريصير"، والثاني من "صاريصور". ومعناه عندما يستعمل متعديا هو جعل
الشيء مائلا، والمعنى الآخر هو تقطيع الشيء.
وقد حمل المفسرون هذه الكلمات عادة على أن معناها في
الآية:
"إقطع رؤوسها" أو "قطعها". والتقطيع ينسجم مع الجملة اللاحقة في الآية أيضاً حيث
يقول:
﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا﴾، ولا يقول: اجعل كل واحد منها على جبل. وقد جاء في الروايات أنه لم
يكتف بقطع رؤوسها وإنما خلط لحومها ودقها ثم قسمها إلى أجزاء وجعل كل جزء على جبل.
وهناك اختلاف حول عدد الجبال. وفي جميع روايات الشيعة تقريبا أنها كانت عشرة جبال،
واحتفظ برؤوسها ومناقيرها في يده، وقسم بقية أجسامها إلى عشرة أقسام وجعل كل قسم
منها على جبل. واختلفت روايات العامة، فمنها ما يقول إنها أربعة جبال ومنها ما يقول
إنها سبعة جبال. وبعد ذلك دعاها إبراهيم بأن قال مثلا للطاووس أن تعالَ فطارت
أجزاؤه المختلفة بسرعة والتحقت برأسه. وحكمة الله في هذا هي أن يعلم أن الله يوم
القيامة يحيى أيضا الموتى الذين تناثرت أجزاء أبدانهم. وبعض الذين نذورا أنفسهم
لإشاعة الشبه استنكفوا من قبول ظاهر الآية مما لا يسعنا هنا مناقشته. أجل إن بعض
المفسرين يقول إن إبراهيم عليه السلام أراد أن يعرف كيفية إحياء الميت. يقول
العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه: إنه أراد معرفة كيف يحيي الله. فالأمر أرفع
بكثير من قصة عزير أو إرميا، إنه كان يريد مشاهدة كيفية فعل الإحياء الإلهي. هذا هو
أحد مصاديق قوله تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴾.
وبعبارة أخرى: تارة يكون السؤال بهذا الشكل: كيف يصبح للشيء المادي استعداد
للحياة، فيما لو فرضنا أن ميتا أحياه المسيح عليه السلام ونحن لا ندري ماذا فعل حتى
أحياه. فهنا لا بد أن نقول "تحيا". وتارة أخرى يكون السؤال عن كيفية الإحياء. ولا
يتوفر الوصول إلى جواب لهذا السؤال إلا إذ تمت إرادة الله بواسطته، وبعبارة أخرى:
يصبح هو بنفسه مجرى لإرادة الله. فما لم يقع الشخص بنفسه في سلسلة العلل فإنه لا
يدرك فعل الله. ولهذا أمره الله أن يقوم بنفسه بذبح تلك الطيور وتقطيعها ثم بدعوتها
لتأتي حتى يشاهد في باطنه العلاقة بينها وبينه. فمفاد الآية الكريمة هو أن إبراهيم
أراد مشاهدة حقيقة فعل الله، ولم يرد الوصول عن طريق الآثار. فالذي يؤدي إلى
اطمئنان القلب هو الرؤية والمشاهدة، بينما الذي نظفر به عن طريق الدليل هو المعرفة
وليس الرؤية، والرؤية شهود ولا تحصل عن طريق الآثار.
ولعل قوله تعالى: "أو لم تؤمن" كان من أجل أن يقول إبراهيم عليه السلام "بلى"، حتى
يعرف الآخرون أنه كان يعلم بذلك، فلا تحصل شبهة في هذا المجال. وذلك لأن الله تعالى
عندما يسأل فإن سؤاله ليس من قبيل الاستفهام الحقيقي، لأن الله لا يجهل والعياذ
بالله ففي سؤاله إذاً حكمة خفية. وقال بعض الذين في قلوبهم مرض: إن إبراهيم أراد أن
يعرف كيف تعود الحياة إلى الميت، فجاءه الجواب: أن افعل كذا وكذا. وليس معنى الآية
إنه قد تم فعلاً إنجاز هذه الأمور. و﴿فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ
﴾ يعني إن الطيور التي عودتها وأنست إليك ادعها حتى تجيء إليك،
ولا يعني هذا أيضا أن إبراهيم قد قام بهذا الفعل واقعا. إن هذا حقا هراء يضحك
الثكلى، ويبتلى به كل من يتجرأ على
القرآن. فهل عمل كل لاعب بالطيور عندما يدعوها
فتأتيه دال على أن الله يحيى الموتى. ومن الموارد الأخرى التي جرى فيها الحديث عن
إحياء الأموات في
القرآن الكريم هي الآية 49 - من سورة آل عمران:
﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ
﴾. والآية 110 من سورة المائدة:
﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾.
وتتعلقان بالمسيح عليه السلام.
ونفس أولئك الذين يرون أنفسهم مفسرين يقولون بالنسبة
لهاتين الآيتين:
أولاً: إنه يقول "أحيي"، ولم يقل لقد فعلت هذا الفعل.
ثانياً: ويقول أيضاً في الآية الثانية "تخرج الموتى"، ولعل الله سبحانه قد أعطاه
الإذن في نبش قبورهم!. وعلى كل حال فإن أدل دليل على إمكان شيء هو وقوعه والدليل
على إمكان الحياة بعد الموت ما هو واقع في هذا العالم.
إذاً من مجموع الآيات يستفاد: إن المعاد ليس من المستحيلات الذاتية ولا من
المستحيلات الوقوعية، فهو ليس مستحيلا ذاتيا لأنه لا يستلزم التناقض: فلو قلنا إنه
حي وهو في نفس الوقت ميت لكان تناقضا، ولكننا نقول إنه يتم إحياؤه بعد الموت، فهو
غير مستحيل. وليس مستحيلا وقوعه أيضا لأنه لا يوجد مانع من تحققه. وتبقى مرحلة
واحدة هي: هل يفعل الله هذا الشيء أم لا؟ لقد ثبت لحد الآن إن الله إذا أراد أن
يحيي فإنه يستطيع، أي إن وقوع المعاد ممكن، ولا يوجد دليل على عدم إمكانه. أما هل
إن الله يفعل هذا الشيء؟. ومن أين نفهم ذلك؟ فالطريق الطبيعي لمعرفة ذلك هو السؤال
منه تعالى. فإذا ثبت أن
القرآن منزل من قبل الله، وهو يقول في
القرآن إنني أفعل هذا
الشيء، فإن الموضوع قد تم إثباته. وبعبارة أخرى: إن أول دليل على ضرورة المعاد هو
دليل تعبدي. فإذا عرفنا أن
القرآن كلام الله، وهو يقول إنني سأفعل هذا الأمر فإن
الحجة تامة على الناس. ومن المسلم أن
القرآن الكريم قد أكد كثيرا على هذا الموضوع،
وسوف نختار بعض النماذج من الآيات التي تتميز بتأكيد أعظم من غيرها، وإلا فإن في
القرآن ما يناهز الألفين من الآيات التي تدل بنحو من الأنحاء على تحقق القيامة، إما
بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية. ففي طائفة من الآيات يؤكد تعالى على
وقوع المعاد ويأمر النبي صلى الله عليه وآله بالقَسَم على ذلك:
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين﴾
يونس/53.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
﴾ سبأ/3. فهو تعالى يؤكد الجواب بالقسم ولام التأكيد ونون
التأكيد الثقيلة. أي إنه استعمل كل أحرف التأكيد ليفهم أن القيامة ستتحقق حتما.
وكأنه يشير في ذيل الآية إلى دفع إشكال مقدر وهو: كيف يعلم أن هذا البدن مثلا بأي
روح؟ فيجيب: إنه تعالى يعلم بكل شيء حتى إذا كان أصغر من الذرة سواء أكان في
السموات أم في الأرض، ولا يقتصر الأمر على أن ذاته تعالى عالمة بكل شيء، وإنما
جميع هذه المعلومات التي تتعلق بكل أشياء العالم منعكسة في كتاب أيضاً، فإذا استطاع
الملائكة مثلا أن يشرفوا على هذا الكتاب فإنهم سوف يطلعون على تلك المعلومات.
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ
﴾ التغابن/7.
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ
يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا
﴾ النحل/38.
فالآيات السابقة كانت تنقل قول الكافرين فقط، وأما هذه الآية فهي تتحدث عن أشخاص
يقسمون قسما مغلظا على أنه لا يوجد معاد. وهم لا يقسمون باللات والعزى وإنما يقسمون
بالله. ثم يتحدث الله عن الوعد الحق. وفي آيات أخرى أيضا نظير هذا:
﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور﴾ُ
فاطر/5.
﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾
الزمر/20.
﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾
النساء/122. وهناك آيات تصرح بأن المعاد لا ترديد فيه:
﴿إنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يُؤْمِنُونَ﴾المؤمن/59.
﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾
الشورى/7. وتوجد آيات تدل على أن الله يلزم نفسه بتحقيق القيامة:
﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾
النجم/47.
﴿وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾
الأنبياء/103. ولدينا آيات تعتبر الإيمان بالقيامة هو هدف الأنبياء:
﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾
غافر/15. وقد ذكرت للقيامة أسماء عديدة لعلها تناهز الأربعين إسما، وقد سميت
في هذه الآية بـ "يوم التلاق" أي اليوم الذي يلتقي فيه الناس ببعضهم، وهناك أسماء
أخرى لها من قبيل: يوم الجمع، أو يوم الخلود، أو يوم الشهود، أو يوم الحساب، أو
اليوم الآخر، أو الدار الآخرة، وغيرها، وكل واحد من هذه الأسماء يشير إلى ميزة من
ميزات القيامة.
﴿يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾
الرعد/2.
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ
فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
﴾الشورى/ 7. وعلى أقل تقدير فإنه يمكن القول إن الإنذار بالقيامة
كان أحد أهداف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. وتوجد آية في
القرآن تتحدث عن "علم
للقيامة" وهو من التعبيرات العجيبة:
﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾
الزخرف/61. والضمير في قوله "إنه" يعود إلى
القرآن حسب الظاهر. وتتناول بعض
الآيات موضوع القيامة من خلال علاقته بنبي معين:
﴿ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ﴾
الأنعام/154. وهناك آيتان تتعرضان للحديث عن القيامة مع الكفار:
﴿...أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
﴾ الأنعام/130.
ويظهر من الآية الكريمة أنه لم يُبعث رسول إلا وهو ينذر الناس من يوم القيامة؟
﴿ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾
الزمر/71. ونلاحظ في
القرآن المجيد آيات أخرى تبين بأنحاء مختلفة أهمية
الإيمان بالقيامة وضرورة هذا الإيمان وتحققها. ومن جملة الآيات التي تجعل الاعتقاد
بالقيامة بمستوى الاعتقاد بالله جل وعلا، وكأنه يحتل الكفة الأخرى للميزان هاتان
الآيتان:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
﴾ البقرة/8.
﴿مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾
البقرة/62. ونحن نعلم إنه لا يوجد في لغة
القرآن ولا أي كتاب سماوي ما هو
أهم من الإيمان بالله، فإذا جعل شيء قرينا له فإنه لا بد أن يتميز بأهمية خاصة.
ويضم القرآن آيات تدل على أن السعادة والفلاح متوقفان على الإيمان واليقين بالآخرة،
ولا يكفي الظن والتخمين:
﴿وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾
البقرة/4. وتوجد آيات تتعرض لما يقابل ذلك وهو أن من لم يؤمن بالآخرة فمصيره
إلى العذاب وإلى جهنم:
﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا﴾
الإسراء/10. ولدينا آيات كثيرة تقرن بين المنكرين للمعاد والمنكرين للنبوة،
لكننا نذكر هنا ما يتعرض للقيامة فحسب.
﴿بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ
الْبَعِيدِ﴾
سبأ/8. إذا ابتعد شخص عن الهدف خطوة أو خطوتين فإنه يسهل عليه التصحيح
والعودة إلى الطريق السليم، وأما إذا ابتعد كثيراً عن المقصد فإنه لا أمل في عودته.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ﴾
المؤمنون/74.
(1) نغضّ النظر عن سند هذه الرواية فلعلّ النقل كان
صادقاً، والراوي الضعيف قد يصدق في نقله.
(2) تفسير نور الثقلين، ج1، ص 275.