مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الاعتقاد بالمعاد وأثره التربوي في بناء الإنسان



يواجه الإنسان منذ وجد على الأرض مصيراً محتوماً لا مفر له منه وهو الموت والارتحال عن هذه الدنيا.
وقد كان هذا الإنسان، ولا يزال، يتساءل عن مصيره بعد الموت، وماذا سيحل به بعد أن يدفن تحت التراب
.
 

إن غالبية الناس تخاف من الموت، ويتملكهم إحساس مرعب عند دنو أجلهم، بل عندما يتذكرون هذا المصير المحتوم أو يمر في مخيلتهم. ويمكن إرجاع هذا الخوف بشكل عام إلى العقائد الباطلة التي يحملها الناس عن الموت وما بعده، أو نتيجة أعمالهم المفسدة والظالمة. وقد انقسموا إلى طوائف متعددة نذكر أهمها:

أ - المنكرون للحياة بعد الموت:

 أنكرت هذه الطائفة من الناس المعاد، واعتبرت أن الإنسان يفني بموته وينعدم بحيث تصبح عظامه رميماً. ويذكر القرآن مثل هؤلاء:
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ويجيبهم ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
فهؤلاء قد أخطأوا حين اعتبروا أن الإنسان مجرد عظم ولحم ودم، ونسوا أن حقيقة الإنسان هي النفس المجردة وأنكروا القدرة الإلهية العظيمة، فالذي خلق أول مرة قادر على أن يخلق من جديد.
ولما كان الإنسان بطبعه يخاف من العدم والفناء، نرى هؤلاء يرتعبون من الموت ويخافون منه خوفاً شديداً.

ب - المؤمنون بالحياة بعد الموت: وهؤلاء انقسموا أيضاً إلى طائفتين:
أ - طائفة اعتبرت أن حالات الإنسان وحياته بعد الموت تابعة لأحواله وأوضاعه في الدنيا. فإذا كان من النبلاء أو أبناء الأمراء والأغنياء كان هناك كذلك، وإذا كان من الفقراء والمساكين فهو في الآخرة فقير ومسكين أيضاً.
ولذلك نرى، كما عند بعض الشعوب القديمة كالفراعنة وغيرهم، أن أهل الميت وعشيرته يزودونه عند دفنه بالذهب والأموال والطعام وغير ذلك، اعتقاداً منهم أنه سوف يحتاجها في ذلك العالم أيضاً.

ب - وطائفة أخرى اعتقدت، واعتقادها الحق، أن المعاد هو يوم الجزاء والحساب، حيث يبعث الله الناس ليجزيهم على ما فعلوا أن خيراً فخير وأن شراً فشر. فهذه الدنيا هي مزرعة للآخرة يحصد الإنسان هناك ما فعل هنا "ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء... إنما تنتقلون من دار إلى دار".
وهؤلاء، وكذلك الطائفة السابقة، يخافون من الموت بسبب ما يرتكبون من المعاصي والآثام. فمثلهم كالمجرم المحكوم عليه بالإعدام، يخاف الخروج من السجن ويتشبث بقضبانه لا كرهاً بالحرية وإنما خوفاً من حبل المشنقة.

جاء رجل إلى أبي ذر رضوان الله عليه فقال: ما لنا نكره الموت؟ فقال رضي الله عنه: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب.
إلا المؤمنين الصادقين فإنهم لا يخافون الموت أبداً، بل تراهم يهرعون إلى جبهات الجهاد ويستأنسون بالموت أيما استئناس. "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه".
إن المؤمنين الصادقين لا يخافون من الموت أبداً، بل يرونه سعادة وولادة جديدة، وخروجاً من سجن الدنيا المظلم.

ويرون أن الموت سعادة وولادة جديدة، وخروج من محيط الدنيا الضيق إلى عالم واسع رحب إني لا أرى الموت لا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً.
وليس غريباً أن نصادف رجالاً كالحسين عليه السلام علماً وإشراقاً وتلألأً، وحباً للثواب وشوقاً إلى اللقاء فهذا سيد شهداء المقاومة يقول:
اللهم ارزقني شهادة مطهرة، أنا اخترتها بنفسي كفارة عن ذنبي، شهادة قل نظيرها يتفتت فيها جسدي.. حتى تسكنني بجوارك وجوار أوليائك" وقد كان له ما تمنى فهنيئاً له.

* المعاد ومهمة التربية

يعتبر المعاد عاملاً من عوامل تربية الإنسان ولذلك فقد اعتنى القرآن بهذا الأصل عناية كبيرة وجعله الموضوع الثاني من حيث الأهمية بعد التوحيد.
وفي الواقع، لم يتم إنكار، المعاد على أي دليل أو برهان، والواقع الأساسي لهذا الإنكار ليس إلا التفلت من المسؤولية والتعهد، والرغبة في الاستمرار في الظلم والعبث واللهو. قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ   بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ  بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ.

فهذا الذي ينكر المعاد بحجة عدم إمكانية إعادته إلى الحياة مرة ثانية إنما يريد في الواقع الفجور والظلم.

ويؤكد القرآن أن الضلال والانحراف عن طريق الله ليس إلا نتيجة طبيعية لنسيان يوم الجزاء وعدم الالتفات إلى الثواب أو العقاب المترتب على عمل الإنسان ﴿انَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.
وفي المقابل يمهد ذكر الموت وتذكر أحوال القيامة وأهوالها أرضية مناسبة لتزكية النفس وتهذيبها، فهو من ناحية يعمل على ضبط شهوات الإنسان ولجمها، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا من ذكر هادم اللذات فإنكم إن كنتم في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأثبتم، وإن كنتم في غنى بغَضه إليكم فجدتم به فأجرتم" والمقصود من هادم اللذات الموت.

ومن ناحية أخرى يكتسب الإنسان الفضائل السامية ويؤدي به إلى تسامي الروح وخلوص الإيمان كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.

يقول الشيخ الآملي في كلام له في هذا المجال:
ما نود طرحه هو تأثير الاعتقاد بالمعاد على تهذيب النفس وتربية الروح فيما لو أجريت الأحكام الإلهية وأخرجت الناس من الظلمات إلى النور. ولكن تحت أي عامل؟ هل أن العامل الأهم هو وجود الحديد والسيف؟ ﴿أَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز أم أن هناك شيئاً آخر.

نحن نريد هنا أن نثبت أن العامل الأشد تأثيراً هو ذكر الآخرة ويوم الحساب، لأن تنفيذ الحدود يمكن أن يثبت نظاماً صورياً فقط، ولكن تربية الروح وتهذيبها لا يمكن أن يتم بالحديد فالإنسان قد لا يرتكب عملاً خلافياً في العلن ولكن يصدر منه أي عمل في الخلوة.
وعلى هذا الأساس قلما نجد سورة لا تذكر أحداث القيامة والاعتقاد بيوم الحساب، والثواب والعقاب والجنة والنار، وعندما يذكر الأنبياء على نحو التعظيم يقول إن ذكر القيامة هو الذي أوصلهم إلى هذا المقام. واليوم كذلك فإن ما جعل جبهاتنا مليئة بالحماس والعطاء هو التعلق الشديد بالشهادة وهي العلاقة بالحياة الأبدية...

ونجد السورة المباركة صلى الله عليه وآله وسلم من الآية "45" وبعدها تتحدث عن عدة من الأنبياء.
﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار.
والمخلَصون أعلى مرتبة من المخلِصين. فالمخلِصون أولئك الذين يمارسون الأعمال بإخلاص، ومن بينهم يجتنبي الله أفراداً ويستخلصهم لنفسه بحيث لا ينفذ الشيطان إلى ساحتهم "وهم المخلَصون".
﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. فلماذا ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ لماذا؟ لأجل ﴿ذِكْرَى الدَّار...

* نظرية المعاد
يعتبر الإيمان بالمعاد والحياة الآخرة من المسائل الفطرية عند الإنسان، حيث إننا نلاحظ دائماً، حتى في أحلك الظروف وأشدها خطراً، نداءً خفيفاً من أرواحنا مفاده أننا مخلوقون للبقاء لا للفناء. وهذا النداء ليس إلا صوت الفطرة الصافية.
إن العامل الأشد تأثيراً في تهذيب النفس وتربية الروح هو ذكر الآخرة ويوم الحساب. ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار.

إن هذا التعلق الأكيد والأصل الموجود في أعماقنا لهو خير دليل على وجود الحياة بعد الموت، وإلا فكيف يحصل التعلق؟ وهل يمكن أن نتعلق بشيء ليس موجوداً؟
ثم إننا لو تتبعنا الأمم السالفة، دلتنا الآثار المتبقية من الإنسان القديم أنه كان يعتقد بالحياة بعد الموت وأنه لم تمر حضارة إلا وتركت ما يدل على اعتقادها هذا. ولذلك فلا يمكن أن نعتبر هذه العقيدة العميقة في جذور التاريخ توهماً ساذجاً. بل هي حالة فطرية أصيلة لأن الفطرة وحدها تستطيع مقاومة الزمن والتقلبات الاجتماعية والفكرية.

أما الذين تظاهروا بإنكار المعاد وهم قلة من الناس، فقد عرفنا أن مرادهم الفجور والطغيان، لا أنهم لا يعتقدون فعلاً بهذه الحقيقة الناصعة.

ولو رجع الإنسان إلى لمحة الضمير الموجودة في داخله لكفى بها دليلاً حياً على ضرورة وجود يوم الحساب ليجازي الناس على أعمالهم. فكم من المجرمين الذين أفلتوا من حكومة البشر، لكنهم سلموا أنفسهم ومشوا طوعاً إلى أعواد المشانق للخلاص من عذاب الضمير، وهنا نسأل: كيف يمكن أن يوجد في داخل الإنسان "هذا الكائن الصغير" محكمة هامة كهذه، ولا يوجد في عالم الخليقة العظيم محكمة تتناسب معه؟
يقول الفيلسوف الألماني كانت: هناك شيئان نالا إعجاب الإنسان: أحدهما السماء المرصعة بالنجوم والمستقرة فوق رؤوسنا والثاني الوجدان والضمير المستقر في أعماقنا".

* تجسم الأعمال
ذهب الشيخ البهائي ذات يوم لزيارة إحدى المقابر فالتقى أحد العباد هناك، قال العابد للشيخ البهائي:
رأيت في هذه المقبرة قبل اليوم أمراً غريباً وهو أني رأيت جماعة جاؤوا بجنازة إلى هذه المقبرة ودفنوها في المكان الفلاني وانصرفوا.
وبعد مضي ساعة شممت رائحة عطرة، ليست من روائح هذه النشأة، فبقيت متحيراً انظر يميناً وشمالاً لأعرف منشأ هذه الرائحة العطرة..
وفجأة رأيت شاباً وسيماً في زي الملوك يذهب باتجاه ذلك القبر، مشى حتى وصل إلى القبر، فتعجبت من مجيئه إلى هذا القبر، وما أن جلس بجانبه حتى اختفى، وكأنه دخل في القبر...

بعد ذلك بفترة وجيزة شممت رائحة خبيثة أشد نتناً من أية رائحة نتنة... نظرت فإذا بي أرى كلباً يقتفي أثر ذلك الشاب حتى وصل إلى القبر واختفى..
وازداد تعجبي... وفيما أنا كذلك إذا بذلك الشاب يخرج فجأة سيء الحال، سيء الهيئة، مثخناً بالجراح ورجع من حيث أتى...مشيت في أثره، ورجوته أن يخبرني بحقيقة الحال، قال:
أنا العمل الصالح لهذا الميت، وكنت مأموراً أن أكون معه في القبر، وفجأة جاء هذا الكلب الذي رأيت وهو عمله غير الصالح فأردت إخراجه من القبر وفاءً بحق الصحبة للميت فغضني هذا الكلب واقتطع بعض لحمي وجرحني كما ترى، ومنعني من البقاء معه... فاضطررت لترك القبر فخرجت وتركته.

قال الشيخ البهائي: صدقت فنحن قائلون بتجسم الأعمال وتصورها بالصورة المناسبة بحسب الأحوال.
إن الاعتقاد العميق في جذور التاريخ بمسألة المعاد لهو خير دليل على كونه فطرياً، لأن الفطرة وحدها تستطيع مقاومة التقلبات الاجتماعية على مر الزمن.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع