الشيخ فادي ناصر
أولاً: هداية العاملين وإرشادهم نحو الأهداف الإلهية.
ثانياً: إشاعة روح العبودية والطاعة لله بين العاملين.
ثالثاً: تهيئة قابليات العاملين واستعداداتهم كمقدمة أساس لتكاملهم.
* المداراة أساس المودة
هذه الأهداف السالفة الذكر هي في الواقع غير قابلة للتحقّق من دون مبدأ أساس من مبادئ العمل الإسلامي الناجح هو "المداراة". المداراة تعني ملاينة الناس والرفق بهم وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا. وفي اللغة داريت الرجل: لاينته ورفقت به، وأصله من داريت الظّبي أي احتلت عليه وختلته حتى أصيده (1). والمداراة بهذا المعنى هي ضد المكاشفة كما في حديث جنود العقل والجهل عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "المداراة وضدها المكاشفة"، وهي خير منها أيضاً كما في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام حين سُئل عن رجلٍ خبيثٍ قد لَقِي آخر منه جهداً: هل ترى مكاشفته أم مداراته؟ فكتب عليه السلام: "المداراة خيرٌ لك من المكاشفة وإنّ مع العسر يسراً فإنّ العاقبة للمتقين" (2)، لأن المداراة تعتبر الوسيلة المثلى والطريقة الفضلى لإرساء أسس المودة والرحمة في المجتمع وبين أفراد العمل الواحد، وبالتالي منح فرصة حقيقية لضمان تحقق الأهداف الكبرى التي من أجلها خُلق الإنسان وكان الاجتماع الإنساني.
* زكاة العمل
من هنا كانت مداراة الناس والرفق بهم شرطاً أساساً من شروط تماميّة الأعمال وصحّتها في الإسلام كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله: "ثلاث من لم يكنّ فيه لم يتمّ له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخُلق يداري بِه النّاس، وحِلمٌ يَرُدّ بِه جهل الجاهل" (3). كما كانت المداراة سبباً رئيساً أيضاً لنمو الأعمال وزكاتها؛ كما في الحديث عن مولى الموحدين علي عليه السلام أنه قال: "ما من عبد ولا أمة دارى عباد الله بأحسن المداراة ولم يدخل بها في باطل ولم يخرج بها من حقّ إلا جعل الله نَفَسه تسبيحاً وزكَّى أعماله" (4).
* المداراة واجبة
ولأجل ذلك كله صارت المداراة تكليفاً وواجباً ملقىً على عاتق وكاهل الناس، خصوصاً أولئك المتصدّين لهداية وإرشاد الآخرين. روي عن الإمام الحسن عليه السلام أنه قال: "سمعت جعفراً عليه السلام يقول: جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال: يا محمّد ربّك يقرئك السّلام ويقول لك دارِ خلقي"(5). وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أمرني ربّي بمداراة النّاس كما أمرني بأداء الفرائض"(6). وما ذلك إلا لأن للمداراة مدخل عظيم ومهمّ جداً في سلامة الدين والدنيا، وبلوغ الأهداف الإلهية من خلق الوجود، فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس" (7).
* أهم عامل في هداية الناس
وفيما يرتبط بدور المداراة في تحقّق الغايات الدينية والأهداف الإلهية الكبرى التي من أجلها كانت البعثة النبوية والولاية العلوية، يقول الإمام الخميني قدس سره في المداراة: "للرفق والمداراة كامل الأثر في تحقيق الغايات المرجوّة من الأمور المختلفة، سواء في مجال معاشرة الناس وأمور الدنيا أو في مجال الشؤون الدينية وهداية الخلق وإرشادهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في مجال مجاهدة النفس وترويضها والسلوك إلى الله"(8). وفي موضعٍ آخر يقول "قده": "للرفق والمداراة الأثر الأكبر من أثر أي عامل آخر في تحقّق الغايات المرجوّة، هكذا هو الحال في الشؤون الدنيوية، وكذلك في الشؤون الدينية كإرشاد الناس وهدايتهم، فالرفق من أهم العوامل في تحقّق هذا المقصد الشريف بل لا يمكن تحقّقه بدونه" (9). أما ترك المداراة والرفق بالناس مع ما فيها من منافع وخيرات عظيمة فيرجع الإمام "قده" سببه إلى أمرين أساسين هما حبّ النفس والدنيا حيث يقول: "أما القلب الملوّث بالبغض والعداء لعباد الله، الذي يعاملهم بالعنف والخرق، فهو منحرف عن الفطرة الإلهية السليمة، بل ومحتجب عنها بالتلوّث بالدنيا وزخرفها وحبّ النفس والعجب بها" (10).
* المداراة في القرآن الكريم
وبالعودة إلى كتاب الله العزيز نجد أنه يزخر بالآيات التي تأمر بالرفق والمداراة في العديد من مواطن العمل وأداء التكليف، منها قوله تعالى: ﴿فَبِما رَحْمَة مِنْ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159). فالآية تشير بشكل واضح إلى أنّ ملاينة الناس تمثّل اللبنة الأساس في شدّ أوصال المجتمع وتقوية وشائج المحبّة بينهم، أما الغلظة والخشونة فعاملٌ لتفرّق الأفراد، ووقوع التنافر بين الناس، وبالتالي حصول خللٍ في العلاقات الاجتماعية والإنسانية. يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ (البقرة: 83). فالآية الكريمة تبيّن أيضاً أهميّة حسن المعاملة والمداراة من خلال القول اللّين والحسن، وبذلك تكون مداراة الناس بالكلمة الطيبة من أهم التشريعات الإسلامية والمقرّرات الدينية في عملية التفاعل الاجتماعي والعملي.
* رسالة إلى المبلّغين
ومنها أيضاً قوله تعالى مخاطباً نبيّه موسى وأخاه هارون عليه السلام: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 43ـ 44). فعندما أمر الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الحق وإرشاده إليه كان من جملة ما أوصاهما به تعالى مداراة فرعون، رغم أنه بلغ في طغيان أنانيته مرتبة ادّعاء الربوبية، إلا أن الرفق والمداراة مع ذلك كان الأسلوب الذي أوصى به الله تعالى نبيّه موسى عليه السلام لهدايته وتليين قلبه القاسي. وهذه وصية عامة ورسالة واضحة إلى جميع المبلّغين لرسالات الله والمتصدّين لإدارة شؤون الناس الدينية والدنيوية مفادها: أن الدعوة إلى طاعة الحق لا بدّ أن تكون مقرونة باللّيونة واللطف والتعامل من موقع المحبّة والرحمة مع الآخرين. فالإنسان قد يتحرّك من موقع هداية الناس باللّين والعطف والمداراة ويحقّق نجاحاً أكبر بكثير ممّا لو استخدم طرقاً أخرى مقرونة بالخشونة والغلظة والجفاء. ومنها أيضاً قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34). فمن مصاديق دفع السيئات بالحسنات كما تبيّن الآية الكريمة أن يتعامل الشخص من موقع المداراة والأدب والبشاشة مع عدوّه المعاند والحقود إلى حيث يمكن أن ينقلب بعدها هذا الإنسان إلى صديق محبّ، ويتحوّل من حالة العداوة والبغضاء إلى حالة الصداقة والمحبّة.
(1) لسان العرب، ابن منظور، ج 14، ص 255.
(2) أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج 10، ص 20.
(3) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 9، ص 35.
(4) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 117.
(5) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 65، ص 79.
(6) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج 12، ص 200.
(7) عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص 285.
(8) جنود العقل والجهل، الإمام الخميني قدس سره، ص 287.
(9) م. ن.
(10) م. ن، ص 209.