ضاقت الأرض بما رحبت على المسلمين في مكّة، فاختار الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة إلى المدينة المنوّرة حيث خرجت الناس بكلّ فئاتها
لاستقباله، وكان من بينهم اليهود.
فكيف تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع مجتمع المدينة؟
*الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين أهل المدينة
كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أمام أسلوبين أو حالتين من حالات التعامل:
الأولى على مستوى التعامل العامّ مع مجتمع المدينة ككلّ، وقد ورد تفصيله في العدد
السابق، أمّا الحالة الثانية، فهي تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع الفئة التي
تخلِص لهذه القيادة الجديدة، الفريق المؤمن في المدينة المنوّرة.
فكيف تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع هذه الفئات التي دخلت في الدين
الجديد؟
طبعاً الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما نعرف، لا يحمل هدفاً محدوداً، بل إنّ
رسالته هي لكلِّ الناس، وأراد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينشر الدعوة الإسلامية في
كلِّ العالم. هذا الهدف الكبير يتطلَّب على الأرض تجهيزاتٍ ومقدّماتٍ كبيرة، ولا
يتطلَّب مقدّمات عاديّة وبسيطة. هنا، لا بدّ أن نذكر شيئاً من حياة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في مكّة المكرمة بشكلٍ خاطفٍ.
*في مكَّة: مؤمنون فقط
عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة المكرّمة ثلاثة عشر عاماً، لكن لم
يستطع أن يخلقَ مجتمعاً إسلاميّاً بينما وُلد المجتمع المسلم في المدينة حين كان
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال يبلّغ في مكّة. وتحوّل مجتمع المدينة إلى
مجتمعٍ إسلاميّ. على مستوى مكّة، استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناء
أفراد مؤمنين لا أكثر ولا أقلّ، ولم يكن لدى هؤلاء الأفراد والعناصر حتّى القدرة
على حماية أنفسهم: بلال [بن رباح] ضُرب، ياسر [بن عامر] قُتِل، سميّة [بنت خياط]
قُتِلت، عمّار [بن ياسر] كاد أن يُقتل. ولذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان يفكِّر في أسلوب يؤمّن لهم الحماية، فهاجروا هِجرتين إلى الحبشة، وكانت الهِجرة
الثالثة إلى المدينة المنوّرة.
*لم يؤذن في القتال
في مكّة المكرّمة، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصرُّ، من خلال حكم
شرعيّ في القرآن الكريم، على عدم الإذن لهؤلاء الأفراد في القتال. كان يقول لهم:
"لا تقاتلوا حتى ولو أُصبِتم بالكثير من الأذى". وفي الوقت نفسه، الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم، كان يعتمد على قوّة موجودة في مكة، هي قوّة أبي طالب وبني
هاشم، وكانت هذه القوة تقتصر على الحماية في الحدّ الأدنى، يعني حماية الدعوة
والتحرُّك الإسلاميّ، والسماح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مقابلة الوفود
القادمة إلى مكّة ليهديها إلى الله، وليحاورها في الإسلام. كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يكتفي فقط بهذا المقدار. وإلّا كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يستطيع، لو أراد، أن يشكِّل قوّة صغيرة من بني هاشم، ومن أنصاره من المؤمنين
وأن يصطدم بهذه القوة الصغيرة مع بقية العشائر. لكنَّ الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم كان يعرف أنَّ هذه القوة، التي قد تحمي المسلمين والرسالة، قد تدخله في
صراعاتٍ عشائريّة تضيع معها الرسالة الإسلامية، وذلك بسبب المنطق العشائريّ الخطير
في مكّة المكرمة، وسوف يضيع بذلك هدفه الكبير. لذلك أصرّ الله تبارك وتعالى على عدم
الإذن للمؤمنين في القتال، حتّى يتشكّل منهم المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة.
*الوحدة أوّلاً
وبمجرّد أن انتقل المؤمنون إلى المدينة المنورة كان أوَّل إجراء اجتماعيّ قام به
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو ما يسمّى في التاريخ بظاهرة المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار، فأصبح الأوس والخزرج قوة واحدة، اسمها الأنصار، وآخى بين هؤلاء
الأنصار الكتلة الواحدة مع المهاجرين، حتّى صاروا، جميعاً، يشكِّلون قوة واحدة
للإسلام وللمسلمين.
هنا تحضر مسألة تعتبر أساسيّة، وهي لماذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
المدينة بعد أن تشكّل المجتمع الإسلامي المصغّر، أعطى الإذن في القتال،
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39)؟ فما هو السبب؟
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في مكّة المكرمة، هيَّأ أشخاصاً انتسبوا إلى
الإسلام والتزموا بالرسالة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستطيع تسليحهم
وجعلَهم قوّة في مقابل بقية القوى الموجودة في الجزيرة العربية، أي قوة العشائر.
لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر أنَّ القتال لا يَتمّ إلا عبر مجتمعٍ
مقاتِل، محارِب، وليس عبر مجرّد تنظيم.
فالمجتمع ينبغي أن يتحوَّل من مجتمع الدفاع عن النفس إلى مجتمع الفتوحات
الإسلاميّة، لأنّ هدف الرسول كان كبيراً، كما ذكرنا، وهو نشر الرسالة الإسلامية في
كلِّ أنحاء العالم. فالقوّة، إذاً، ينبغي أن تكون في مجتمع يحارب الكفر، ويتحمّل
أهداف هذه الرسالة، ويستعدّ للدفاع وللقتال من أجلها.
*مرحلة الدفاع ثمّ الفتوحات
وفعلاً، أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال مجتمع المدينة يعمل من أجل
جرِّ الآخرين للمعركة، بعد أن كان لا يسمح لأصحابه أن يمسُّوا أحداً بالأذى في مكّة
المكرمة. ووقعت معركة بدر التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً.
هذه الحالة، حالة القتال للآخرين، إنّما برزت في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، عندما عرَف أنَّ هناك قاعدة يمكن أن تقاتل، وأنّ هناك مجتمعاً في المدينة
المنوّرة مستعدٌ لحماية الرسالة الجديدة، والرسول الجديد. وهكذا أخذ رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يدرج المراحل للتغيير والدفاع، حتى وصل إلى المرحلة التي قرّر
فيها أن يبدأ الفتوحات الإسلامية. لقد كانت آخر معركة من معارك الدفاع عن المدينة
المنوّرة هي معركة الأحزاب ومعها انتهت، فعلاً، مرحلة الدفاع عن المدينة، والدفاع
عن النفس، وأخذ الرسول قراراً بغزو المدن الأخرى، وابتدأت الفتوحات الإسلامية.
أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توحيد الجبهة الداخلية في المدينة حتّى
يستطيع أن يواجه بها العالم: روما، وفارس والحبشة. كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يعتبر أنَّ شرط انتصاره هو في أن يكون الجسم الإسلاميّ موحّداً، وأن يكون
المجتمع الإسلاميّ مترابطاً ومتماسكاً.
*"لا إله إلّا الله" هي الهدف
اليوم أيضاً، نحن أمام هدفٍ كبير، أمام نشر كلمة "لا إله إلا الله" في كلِّ العالم.
لذلك لا أستطيع مهما كنت قوياً أن أتخلَّى عن قوّة أخي، ولا يستطيع أخي مهما كان
قوياً أن يستغني عن قوتي، قوّتنا جميعاً تتكامل، ولذلك القرآن الكريم عندما رغب أن
نكون متَّحدين لم يقل: "إنني أريدكم ضمن أسلوبٍ تفكيريٍ واحد، وضمن نزعاتٍ واحدة،
وتطلعاتٍ واحدة"، وإنما قال: أريدكم كالبنيان المرصوص
﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: 4) والبناء فيه الحائط، وفيه السقف، وفيه الأرض،
وفيه الصمود، وكل واحدٍ من هذه الأجزاء مختلف عن الآخر بأجزائه وبشكله، لكنها
تشكِّل بنياناً واحداً مرصوصاً. ولذلك كانت نظرة المسلمين الذين كانوا يواجهون روما
وفارس إلى الأمور مختلفة، لكن كلّهم كانوا يقولون: "نريد أن ننشر كلمة لا إله
إلا الله". الكلّ كانوا متَّفقين على هذه القواسم المشترَكة.
*متآخون في الله
والاختلاف حالة طبيعية بين الناس. المهمّ أن لا نجعل من هذه الاختلافات البسيطة
معبراً إلى النزاع، وإلى التصادم، وإلى الصراع فيما بين المسلمين وما بين المؤمنين،
حتّى يقابل هؤلاء المسلمون جميعاً الأعداء، وكل الذين يتصدُّون للرسالة الإسلامية
في عصرنا الحاضر، يتصدُّون وهم متآخون في الله تبارك وتعالى.
(*) الجزء الثاني من الخطبة، تاريخ 8/12/1984.