آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
تحدّثنا في العدد السابق عن محبّة الله من خلال شرح
"مناجاة المريدين" للإمام السجاد عليه السلام: "... وفي محبّـتك ولهي، وإلى هواك
صبابتي، ورضاك بغيتي...".
ونتحدّث في هذا العدد عن مراتب محبّة الله تعالى.
*المحبّة واجبة ومستحبّة
ثمّة مرتبة من محبّة الله واجبة، وهي محبّة لازمة للإيمان بالله تعالى ولا تقبل
الانفكاك عنه. كما إنّ هناك مرتبة أخرى من محبّة الله، واجبة أيضاً، من باب أنّها
تدفع الإنسان نحو الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات فتكون في المستوى الأدنى مقدّمة
للواجب. وأما باقي مراتب محبّة الله فمستحبّة وذات فضيلة. طبعاً يحكم العقل السليم
بضرورة أن يعمل الإنسان لتحصيل تلك المراتب كلها.
*منزلة المريدين
رسمت "مناجاة المريدين" أعلى مراتب القرب الإلهيّ ومحبّة المعبود، فإذا أدرك
الإنسان عظمة تلك المراتب العالية أذعن بأنّه لا يمكن المقارنة بينها وبين المقامات
الدنيويّة.
جاء في الحديث القدسيّ، في هذا الشأن، عندما خاطب الله تعالى نبيّه داود: "يا
داود.. تواضع لمن تُعَلّمه ولا تطاول على المريدين فلو علم أهل محبّتي منزلة
المريدين عندي لكانوا لهم أرضاً يمشون عليها"(1).
يتضمّن هذا الحديث القدسي مسألتين:
1- يظنّ الإنسان بدايةً أنّ المقصود من "المريدين" في هذا الحديث مريدو النبيّ داود
عليه السلام، إلّا أنّ "المريدين" في اصطلاح الروايات وكافّة التعاليم الدينيّة هم
الباحثون عن الله، وطالِبوه، الذين أرادوا القرب منه والسعي إليه؛ حتّى إنّهم لم
يصلوا إلى المراحل النهائيّة بعد.
2- إنّ عبارة "أرضاً يمشون عليها" هي عبارة بليغة غير موجودة في رواية أخرى.
ويحكي هذا البيان عن عناية الله تعالى بالأشخاص الذين أرادوا السعي نحوه والذين
يحاولون القرب منه حتّى إنّه أمرَ محبّي الله، وداود منهم، بالتواضع أمامهم وأن
يكونوا لهم أرضاً يمشون عليها.
*عبدي أنا لك مُحبّ
ورد: "أنّ الله أنزل في بعض كتبه: عبدي أنا وحقّي لك محبّ فبحقّي عليك كن لي
محبّاً"(2).
يحتمل أن تكون عبارة "أنا وحقّي لك محبّ" قد صُحّفت أثناء الكتابة، وأما العبارة
الأساس فهي: "أنا وحقّك عليّ لك محب". وتمتاز العبارة الثانية عن الأولى بأنها ألطف
منها حيث يُقسِم الله تعالى بالحقّ الذي منحه للناس، على الرغم من أنّ بعض آيات
القرآن الكريم قد صرّح بحقّ المؤمنين على الله:
﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47).
*آثار وعلامات محبة الله
إن ادّعاء محبة الله أمر سهل، وأما الصعب فهو امتلاك محبة الله الخالصة التي تدفع
الإنسان دائماً إلى ترجيح ما يريده الله تعالى على ما يريده غير الله وعلى ما يريده
القلب.
أشار بعض الروايات إلى آثار هذه المرتبة من المحبّة الإلهيّة. من جملة ذلك، ما جاء
في الحديث القدسيّ الذي خاطب الله تعالى به نبيّه موسى عليه السلام: "يا ابن
عمران، كذَبَ مَنْ زعم أنّه يحبّني فإذا جَنَّه الليل نام عنّي، أليس كلّ محب يحبُّ
خلوة حبيبه؟ ها أنا ذا يا ابن عمران مطّلع على أحبائي، إذا جنّهم الليل حوّلت
أبصارهم من قلوبهم ومثَّلت عقوبتي بين أعينهم يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلّموني عن
الحضور.
يا ابن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع، في ظُلم
الليل، وادعُني فإنك تجدني قريباً مجيباً"(3).
ونقرأ في دعاء الإمام السجاد عليه السلام بعد صلاة الليل حول خلوة محبّي الله
بمحبوبهم ومناجاتهم له: "إلهي وسيّدي هدأت العيون وغارت النجوم، وأغلقت الملوك
أبوابها ودارت عليها حرّاسها وبابك مفتوح لمن دعاك. يا سيدي قد خلا كلّ حبيب بحبيبه
وأنت المحبوب إليَّ"(4).
الليل، أفضل فرصة لمشاهدة جمال الخلق والخلوة بالمعبود والمناجاة معه. وكم هو جميل
عندما ينهض الإنسان أواسط الليل من الفراش الناعم ويستعد لصلاة الليل والعبادة، أن
ينظر إلى جمال النجوم فيتمتم قائلاً:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾ (آل عمران: 190).
من جملة علامات المحبّة العامّة، والبسيطة، أن يرغب المحبّ في سماع اسم محبوبه، وأن
يهتمّ به. وهذا بحدّ ذاته اختبار جيد لمدّعي محبة الله الذين يُسَرّون بسماع اسم
الله ويرغبون بسماع كلام الله ولا يتعبون من ذلك. يحبّون الله حقيقةً حتّى إنّهم
يرجّحون الخلوة به وسماع كلامه على الخلوة بغير الله وسماع كلامه. وأما التعب من
سماع اسم الله والتعب من كلامه فهو لأنّ القلب مملوء بحبّ غير الله.
*علامات محبّة الله
من جملة علامات محبّة الله أيضاً:
أ- محبة الأشياء المنسوبة إلى الله: أمثال
الكعبة والمساجد. عندما يقع نظر محبّ الله على المسجد يشعر بالسرور ويلتذّ ببقائه
فيه للحظات يؤدّي فيها الصلاة. أما غير المحبّ لله تعالى فهو لا يحبّ علامات الله
ومن جملتها المسجد فيَعبُر أمامه غير مبالٍ ويقصد أماكن أخرى، يعصي فيها الله.
ب- محبّة أنبياء الله والأولياء: وبالأخص النبيّ
الخاتم وأهل بيته عليهم السلام الذين هم أحبّ عباد الله؛ حيث لا محبّةَ لله من دون
محبّتهم. نقرأ في الزيارة الجامعة: "من والاكم فقد والى الله، ومن عاداكم فقد عادى
الله، ومن أحبّكم فقد أحبّ الله، ومن أبغضكم فقد أبغض الله"(5).
ونقرأ في مقطع من الزيارة الجامعة: "ومَن أراد الله بدَأ بكم، ومن وحَّدَه قبل
عنكم، ومن قصده توجّه بكم. مواليَّ لا أحصي ثناءكم، ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن
الوصف قدركم"(6).
ج- محبَّة وحبّ المحبوب له: أعلى لذّة للمحب والعاشق
أن يدرك محبّة المحبوب له. ومن ثمّ تصبح كلّ علامة وكلام وهداية تأتي من ناحية
المحبوب ذات قيمة عالية عنده. وإذا كان ما يأتي من عند المحبوب غير ذي قيمة بحدّ
ذاته إلّا أنّ قيمته عالية لمجرد أنّه يأتي من قبل المحبوب، ومن ناحية كونه علامة
على محبّة المحبوب له.
د- العمل بما يحبّه المحبوب: من الطبيعيّ، أنّ الإنسان
إذا كان محبّاً لله تعالى وإذا كان يعتبره أفضل محبوب، فهو يسعى للإتيان بالأعمال
التي يحبها الله ويكون على أثرها حبّ الله له. وأمّا إذا لم يهتمّ بما يرضي الله
وما يبعث على محبته، فهو غير صادق في حبّه.
من المحال أن يكون الشخص صادقاً في حبّه لله ولا يرغب أن يحبّه الله ولا يسعى
للحصول على رضاه. ولكن ما هي الأعمال والصفات التي تؤدي إلى محبة الله؟ هذا العنوان
سنتحدّث عنه في العدد القادم إن شاء الله.
1- المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، الفيض الكاشاني، ج8، ص62.
2- إرشاد القلوب، الديلمي، ج1، ص171.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج13، ص329 - 330.
4- الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام بعد صلاة الليل، ص173 - 174.
5- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، الزيارة الجامعة الكبيرة.
6- م.ن.