تحقيق: سارة سمّوري
هل يمكن أن نتخيّل أُمْاً تتلقّى أموالاً باهظة، مقابل
اعتنائها بطفلها؟ إن نجحنا، فسنخاله كابوساً ننتظر أن نصحو منه.
ليس كابوساً، بل واقع مرير نعيشه في لبنان، عندما تحوّلت المدارس (المربّي الثاني)
إلى متاجر وبازارات لجني الأرباح مقابل المهنة الأشرف؛ التعليم والتربية...
*الأعباء ثقيلةٌ على الأهل
أخذ الأهل على عاتقهم مسؤوليّة تأمين متطلّبات التعليم لأولادهم، حرصاً منهم على
تزويدهم بالمعرفة والوعي اللّازمين. فأنهكت المتطلبات كاهِل الأهل وصارت تشكّل
ضغطاً مالياً على الطبقات الوسطى والفقيرة في ضوء الأحوال الاقتصاديّة السائدة.
فأصبح الجزء الأكبر من ميزانية الأسرة يذهب لتعليم الأبناء، وتأمين المتطلّبات التي
قد تُعدّ ثانوية وأحياناً كماليّة. إلّا أنّ المدرسة بقيت ترفع شعار الهدف التربويّ
والتنمويّ ومسايرة التطوّر الذي طرأ على التجهيزات الدراسيّة الحديثة!
فهل وقع التعليم اليوم فريسة معادلة الربح والخسارة؟!
*آراؤهم
بعد الاطّلاع على آراء بعض الأهالي والطلاب، كانت وجهات نظرهم كالتالي:
تقول منال (37 عاماً، أمّ لأربعة أبناء): ندعو المدارس إلى وقفة مع ذاتها وضميرها،
تستعيد من خلالها العمل على تحقيق هدفها الأساسيّ وهو التربية والتعليم. يحقّ
للمدرسة أن تجني أرباحاً، تسدّ من خلالها ما يتوجّب عليها، ولكن يجب أن لا يصبح
هدفها الكسب الماديّ بدون وجه حقّ.
قبل أسبوع ونصف من انتهاء العام الدراسيّ أرسلَتْ مدرسة أولادي تطالب بمبلغ من
المال لشراء كتاب جديد! وهاتفت الناظرة وقلت لها بقي أقلّ من أسبوعين لانتهاء
العام، فما حاجتكم الآن إلى الكتاب الجديد؟! علماً أن الكتب التي مع ولدي لم تُدرّس
كلّ الدروس التي فيها!
*نقترض لشراء كتب وقرطاسية
أمّا ندى (28 عاماً، أم لثلاثة أبناء) فقد قالت: أولادي في مدرسة تُعد من المدارس
الوسطى في المستوى التعليميّ، ومع ذلك في بداية العام الدراسيّ نضطرّ لاقتراض مبلغٍ
من المال لنسدّد رسوم التسجيل وثمن الكتب، التي تجبرنا المدرسة أن نشتري الطبعة
الجديدة منها. مع العلم أنّ المضمون دائماً واحد. أضف إلى ذلك مصاريف القرطاسية
التي تلزمنا بها المدرسة. أما المريول وثياب الرياضة، فيتجاوز سعرها أضعاف كلفتها.
هبة (28 عاماً) التي عملت مدرّسة في مدارس عدّة ولسنوات عدّة كان لها رأي مؤيّد
للأهل، قالت: المدرسة لم تعد فقط تُنْهك الأهل، بل أصبحت كارثة عليهم. بعض المدارس
لا يمتلك الجودة في التعليم ولا في الضمير، كلّ هدفها أنْ تتقاضى الأموال. هناك بعض
المدارس المعروفة بجودتها ونوعيّة العقول التي تُديرها، ولكن قسم كبير من المدارس
لا يملك سوى الصّيت، ويسبح عكس تيّار التربية والنزاهة.
وهناك مسألة، مهمّة جداً، وهي استهتار الدولة بالتعليم الرسمي خاصّة لمراحل الروضات
والابتدائيّ، الأمر الذي يجعل الأهل يتردّدون ألف مرة قبل أن يسجّلوا أولادهم في
المدارس الرسمية، رغم أنّهم قد لا يقدِرون على تكاليف المدارس الخاصّة.
*التعليم حقّ للأولاد
نادر (24 عاماً، طالب جامعيّ) يقول: التعليم حقّ لجميع الأولاد، وعلى الأهل أن
يبذلوا كلّ جهودهم من أجل تأمين متطلّبات التعليم. ولكن يجب أن تكون الأقساط مدروسة
وذات معدّل يتوازن وجميع الرواتب. وعلى الدولة أن تضع قوانين رقابة، وتتابع
التفاصيل التي تستغلّها المدارس لتحوّلِها إلى تجارة تجني من خلالها مبالغَ طائلة
على حساب تَعب الناس.
فاطمة (28 عاماً، أم لثلاثة أولاد) تقول: لقد حمّلتنا المدارس فوق طاقتنا. لن
أتكلّم عن الأقساط والكتب والقرطاسية والثياب، مع أنّها من الأساسيات التي أتعبتنا،
بل سأسأل المدارس عن الأنشطة والرحلات المتزايدة، إذ يقف الأهل متحيّرين بين أن
يحرموا أولادهم النشاط وبين أن يُرسلوهم مع أصدقائهم. نطلب منهم أن يعيدوا دراسة
خططهم لتقتصر على الطلبات الضروريّة.
*حلم في لبنان واقعٌ في البلدان
نجد مفارقة كبيرة بين وضع التعليم في لبنان ومصروفه: (أقساط شهرية - ضمان - قسط
التسجيل - كتب - قرطاسية - ثياب - أنشطة...) وبين بلدان أخرى لا تلزم المواطن بشيء
منها.
فقد أكّد تقرير المؤتمر الفكريّ الأوّل لوزراء التربية والتعليم والمعارف العرب،
عام 1998، الذي انعقد في طرابلس، على إصلاح التعليم في الوطن العربي عبر تعميم
التعليم الأساس والسعي لجعله مجانياً وإلزامياً.
مثلاً: إنّ دولة الإمارات عام 2007 أعلنت عن إنشاء وقف بقيمة 10 مليارات
دولار لدعم التعليم. كما قام قطاع التعليم في مصر باعتماد شهادة الجودة التعليمية
"أيزو" للمدارس التي تحقّق معايير الجودة.
وإذا حططْنا الرّحال في الجمهورية السورية، نجد أنّها تولي الاهتمام والرعاية
للتعليم، حيث يكفل القانون حق التعليم لكلّ مواطن، وهو إلزامي ومجانيّ في المرحلة
الأساسية. ومعظم التعليم ما بعد المرحلة الثانوية يدعم من الدولة بشكل كامل.
وعلى الرغم من الحروب والحصار وانعدام الأمن الذي عاشه العراق، نجد أنّ الدستور
ينصّ على حقّ التعليم المجاني للجميع وفي جميع المستويات. وجُعل التعليم الابتدائي
إلزامياً. وتعتبر الحكومة مسؤولة عن تمويل التعليم وتطويره.
*لا يكوننّ الربح أولويّة
يقول التربوي الدكتور السيّد محمد رضا فضل الله حول التأثير السلبيّ لتجارة
المدارس:
حينما يذهب وليّ التلميذ ليسجل ولده في المدرسة، فإنّه يسلّمه إلى مديرها كأمانة
من الواجب أن يحفظها ويرعاها، ويقدّم لها الحدّ الأدنى من المعارف والخبرات، التي
توفر التربية الصالحة، والتعليم الجيد، وآفاق النجاح، ليواجه بها تحديات المستقبل.
لذا على المدير توفير المعلم الجيّد، والمنهج المناسب، والوسائل التي تسهل عمليّة
التعلّم. وبالتالي فإنّ إهمال التربية من أجل الربح الماديّ هو سرقة لجهود الأب
الذي ينتج بعرق جبينه من أجل توفير تعليم جيد لأولاده. وبالتالي يحول دون تطور
الطالب ويؤدّي إلى التلاعب بمستقبله.
لذا، نعتبر أنّ ما يُطلق عليها مدارس تجارية، ترتكب جريمة كبرى في حقّ الولد والأهل
والمجتمع.
إنّنا لا نمنع أصحاب المدارس الخاصة أن يحقّقوا أرباحاً توفّر لهم عيشاً كريماً،
واستمراراً لمدارسهم، ولكن لا يجوز أن يصبح الربح أولويّة لدى صاحب المدرسة.
* جولة في القانون
أفادنا المحامي الأستاذ "إبراهيم عواضة"، أثناء جولتنا في القوانين الدستورية
المتعلقة بموضوع المدارس، أنّ المدارس في لبنان تخضع لقانون تنظيم الهيئة التعليمية
الصادر عام 1956 والمُعدل عام 2005. وتنصّ مادته الأولى على أن كافة مؤسسات التعليم
الخاصّ (المجانيّ وغير المجانيّ) تخضع لأحكام هذا القانون. وتفصيله: "تساهم الدولة
في المدارس الخاصة المجانية عن التلميذ بنسبة 135 بالمئة من قيمة الحدّ الأدنى.
وتتقاضى المدرسة عن كل تلميذ نسبة 150 بالمئة من قيمة الحدّ الأدنى للأجور في أول
تشرين أول من السنة المذكورة. أما بخصوص المدارس غير المجانية، فتخضع لقانون رقم
515 بتاريخ 6/6/1996، بحيث يُحدد القسط المدرسيّ السنويّ بقسمة إجمالي باب النفقات
على مجمل التلاميذ. وبحال حدوث أية مخالفة أو عوائد باهظة إضافية، تقوم المدرسة
بإجبار الأهل بها، أو مؤشرات تلاعب بأقساط إضافية، عندها يحقّ للجنة الأهل التقدم
بدعوى إلى مجلس تحكيميّ تربويّ، خاص بعلاقة الطلاب مع المدرسة، كما يحق للمدرسة
مطالبة الطلاب الذين تخلفوا عن تسديد الأقساط".
*كلمة تربويّة للقيّمين على المدارس
ويتوجّه الدكتور فضل الله للمدارس مخاطباً القيّمين عليها: "ارحموا من في الأرض
يرحمكم من في السماء".
نطلب الرأفة والرحمة بالأهل الذين يعيشون حياتهم في طوارىء وهم يسعون لتوفير أقساط
أولادهم، وأن يمارسوا مسؤوليّتهم بتوازن، وضمن ضوابط تحترم آمال الأهل وقدرات
الأولاد. فكّروا في جهد الأب، ولهفة الأمّ، وأمل الطفل، ومستقبل الأمة.
ونقول لتجّار المدرس الخاصة، الذين لا يحملون حسّ المسؤولية: هل تقبلون لأولادكم
بمدارس تشابه مدارسكم؟ وهل تعلّمون أبناءكم في مدارس تبغي الربح لا غيره؟!
قيمة التعليم وشرفه يكونان بإصلاح الأفراد والمجتمع، وبالتالي على المدارس أن تحمل
هذين العنوانين، وتكون مدخلاً لتحقيقهما، جنباً لجنب مع الدولة، فنرحم بذلك
المستقبل بأجياله وتطلعاته قبل أن تنحصر قدرة التعليم بالميسورين مادياً، ويكون في
المستقبل جيلٌ نِصْفُه حُرِم من حقّه في التعليم.