ومن مراتب التفكّر، التفكّر في روائع الصنع وإتقانه
ودقائق الخلق، بما يتناسب وقدرة الإنسان من طاقة للتفكّر. ونتيجة هذا التفكّر هي
معرفة المبدأ الكامل والصانع الحكيم، وهذا على العكس من "برهان الصدّيقين".
إذ إنّ مبدأ "برهان الصدّيقين"، في ذاك المقام، هو الحق تعالى عزَّ اسمه، ومنه يحصل
العلم بالتجلّيات والمظاهر والآيات. وأمّا في هذا المقام فمبدأ البرهان هو
"المخلوقات التي عن طريقها يتمّ العلم بالمبدأ والصانع. وهذا البرهان يكون للعامّة
من الناس الذين لا حظّ لهم من برهان الصدّيقين. ولهذا، قد ينكر الكثيرون أن يصبح
التفكّر في الحقّ مبدأ العلم به، وأن يؤدّي العلم بالمبدأ إلى العلم بالمخلوق".
*الحصول على المعرفة
وملخّص الكلام، أنّ التفكّر في لطائف الصنعة ودقائقها وفي إتقان نظام الخليقة، من
العلوم النافعة، ومن أفضل الأعمال القلبيّة، وخير من جميع العبادات، لأنّ نتيجته
أشرف نتيجة. وعلى الرغم من أنّ النتيجة الأصليّة لجميع العبادات والسرّ الحقيقيّ
لها هو الحصول على المعرفة، فإنّ كشف هذا السرّ والحصول على تلك النتيجة ليسا
متيسّرين للجميع، بل إنّ لذلك أهلاً تكون لهم في كلّ عبادة بذرة لمشاهدة أو
لمشاهدات. وعلى أيّ حال إنّ الاطّلاع على لطائف الصنعة وأسرار الخليقة بحسب الحقيقة
والواقع لم يتيسّر للبشر، حتّى الآن.
إنّ أساس الخليقة ونظامها يكون من الدقّة والاستحكام ومن الجمال والكمال في مستوى
لو أنّ الإنسان أمعن النظر في أيّ كائن مهما كان حقيراً، مستخدماً كلّ علومه التي
اكتسبها خلال قرون، لما استطاع أن يطّلع على نسبة واحد بالألف من ذلك، فكيف له أن
يتمكّن من إدراك النظام الكليّ الجميل، ساعياً عن طريق الأفكار البشريّة الجزئيّة
الناقصة، لفهم بدائعه ودقائقه. إنّنا سنلفت انتباهك إلى إحدى دقائق الخلق ممّا هو
قريب بعض الشيء من الأفهام ويُعدّ من المحسوسات.
*ما أتقن صنع الله!
أيّها العزيز، انظر وتأمّل في العلاقة التي بين هذه الشمس والأرض، وفي المسافة
المعيّنة بين الأرض والشمس، وحركة الأرض حول نفسها وحول الشمس، تلك الحركة التي
تكون على مدار محدّد فيحصل منها الليل والنهار والفصول. فما أتقنه من صنع وما
أكملها من حكمة. ولولا هذا التنظيم، أي لو كانت الشمس أقرب أو أبعد، لما تكوّن في
الأرض - في الحالة الأولى من الحر، وفي الحالة الثانية من البرد - معدن، ونبات،
وحيوان.
ولا يقتصر على هذا أيضاً، فإنّ الأوج، أو أقصى نقطة للأرض عن الشمس، يقع في جهة
الشمال لكيلا تزداد الحرارة فتصاب الكائنات بالضرر. وكذلك الحضيض، أو أقرب نقطة بين
الشمس والأرض، يقع في جهة الجنوب، لكيلا يصاب أهل الأرض بضرر. ولا يُكتفى بهذا
أيضاً، فالقمر المؤثّر في تربية موجودات الأرض، يعاكس الأرض في سيرها، وذلك لانتفاع
سكّان الأرض منهما. هذه كلّها من الأمور الضروريّة المحسوسة. غير أنّ الإحاطة
ببدائع النظام ودقائقه لا تكون إلّا للخالق الذي يحيط علمه بكلّ شيء.
*دقّة تحيِّر العقول
ولكن لِم ابتعدنا كلّ هذا البعد؟ فليفكّر المرء في خلقه هو، على قدر طاقته وسَعة
علمه: أوّلاً في الحواسّ الظاهرة التي صُنعت وفق المدركات والمحسوسات، إذ إنّ لكلّ
مجموعة من المدركات، التي توجد في هذا العالم، قوّةً مدركةً بأدقّ ما تكون من
الدقّة والترتيب المحيّرين للعقول.
والأمور المعنويّة، التي لا تُدرك بالحواس الظاهرة، تُدرك على ضوء الحواسّ
الباطنيّة. دع عنك علم الروح والقوى الروحيّة للنفس، ممّا تقصر مدارك الإنسان عن
فهمها، واتّجه بنظرك إلى علم الأبدان وتشريحها وبنائها الطبيعيّ، وخصائص كلّ عضو من
الأعضاء الظاهرة والباطنة. انظر ما أغرب هذا النظام وما أعجب هذا الترتيب!
*عقولنا عاجزة عن فَهم الدقائق
إنّ علم البشر لم يبلغ معرفة واحد بالألف من الحقائق العلميّة حتّى الآن، ولن يبلغ
حتّى بعد مائة قرن، حسب اعتراف العلماء. إنّ جسم الإنسان بالنسبة إلى كائنات الأرض
الأخرى، لا يزيد على مجرّد ذرَّة تافهة، وإنّ الأرض وجميع كائناتها، لا تعدل شيئاً
إزاء المنظومة الشمسيّة، وإنّ كلّ منظومتنا الشمسيّة لا وزن لها إزاء المنظومات
الشمسيّة الأخرى، وإنّ كلّ هذه المنظومات، الكبيرة منها والصغيرة، مبنيّة وُفق
ترتيب منظّم، ونظام مرتّب، بحيث إنّ أيّ نقد لا يمكن أن يوجَّه إلى أصغر ذرَّة
فيها، وإنّ عقول البشر كافّة عاجزة عن فهم دقيقة من دقائقها.
فهل بعد هذا التفكّر يحتاج عقلك إلى دليل آخر ليذعن بأنّ كائناً عالماً، حكيماً، لا
يشبه الكائنات الأخرى، هو الذي أوجد هذه الكائنات بكلّ حكمة ونظام وترتيب وإتقان؟
﴿أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ﴾ (إبراهيم: 1).
تعليم القرآن
ch.redamassre
2015-10-14 01:05:14
شرح. وتفسير. وتوجيه...