الشيخ محمد شقير
إن نظرية المعرفة تعتبر المدخل لأي منظومة فكريَّة أو فلسفيَّة أو ثقافيَّة، إذ أنها تشكّل الأساس الذي يعتمد عليه في بناء هذه المنظومة أو تلك، واللبنة الأساس لتشييد بنائها واتجاهها الفكري. وإن الفلسفة الإسلامية بتجليَّاتها الأخيرة التي ظهرت على يد الفيلسوف الإسلامي صدر المتألهين الشيرازي ليست خارجة عن هذا الإطار وتلك القاعدة إذ أنها محكومة لرؤيته المعرفية ابيستمولوجي؛ ومن هنا كانت الحاجة في فهم فلسفته إلى تحديد نظريته في المعرفة ولذلك كانت تلك الدراسة التي حازت على شهادة الماجستير من الجامعة اللبنانية للعام 1996 والتي طُبعت للمرة الأولى في بيروت سنة 2001م من قِبَل دار الهادي. وقد قدَّم لها سماحة العلامة السيد محمد حسن الأمين وقال في تقديمه: "هذه الدراسة القيِّمة نظرية المعرفة عند صدر المتألِّهين الشيرازي.. التي أعُدُّها مساهمة أصيلة في إحياء الفكر الفلسفي الإسلامي أي خطوة موفقة ومباركة في الطريق إلى استعادة النبض الفلسفي إلى الخطاب الإسلامي المعاصر، خصوصاً عندما اختار الباحث دراسة نظريَّة المعرفة عند صدر المتألهين".
لقد احتوت هذه الدراسة على مقدمة وثلاثة أبواب وفهرس للمصطلحات الفلسفية الواردة فيها. أما الباب الأول فهو بعنوان صدر المتألهين وماهية المعرفة والذي يتضمن أربعة فصول، الفصل الأول هو عن حياة صدر المتألِّهين ومؤلفاته حيث تم تبيين مؤلفاته في الفلسفة ومؤلفاته الدينية. أما الفصل الثاني فعنوانه تعريف المعرفة حيث تناول حاجة المعرفة إلى التعريف وتعريفها من الأشاعرة والمعتزلة إلى الفلاسفة وصدر المتألهين. أما الفصل الثالث فمعنون بالوجود الذهني حيث بيَّنت أدلَّة هذا الوجود والإشكالات الواردة عليه والنظريات التي قيلت فيه. والفصل الرابع يرتبط باتحاد العقل والعاقل والمعقول، حيث بيَّن معنى هذا الاتحاد والموارد التي يقع فيها هذا الاتحاد، سواء في مورد علم الذات بذاتها أو في مورد علمها بغيرها والبرهان على ذلك. ومن ثم ننتقل إلى الباب الثاني والذي عنوانه: تشقيق المعرفة، ويتضمن فصلين: الفصل الأول بعنوان أقسام المعرفة حيث يُذكر اثنا عشر قسماً للمعرفة ذكرها صدر المتألهين في طيَّات كتبه. أما الفصل الثاني فعنوانه: مراحل المعرفة والتي هي عبارة عن أربعة مراحل هي على التوالي: الحسيَّة والخياليَّة والوهميَّة والعقليَّة، ومن ثم تعرض تلك الدراسة لرأي صدر المتألهين في تلك المراحل وكيفية حصولها وتطورها. وأخيراً نصل إلى الباب الثالث المعنون بأدوات المعرفة وقيمتها، وهو يحتوي على فصلين: الفصل الأول بعنوان: أدوات المعرفة، والتي هي الحس والعقل، وهنا يبحث في معانيه وأقسامه وأيضاً عملياته حيث يتم التعرض إلى مباحث غاية في الأهمية؛ ومن تلك الأدوات أيضاً الاستقراء والتمثيل والكشف والإلهام حيث يبحث في كل من الأقسام بشكل تفصيلي مع التعرض لرأي صدر المتألهين فيها.
أما الفصل الثاني فهو بعنوان: قيمة المعرفة، والذي يبحث فيه عن ملاك الصدق في القضايا ومن ثم يتم التعرض لملاك الصدق في القضايا الخارجية والحقيقية والذهنية؛ كما يبحث أيضاً في معيار الحقيقة، والذي يعدّ من أهم مباحث نظرية المعرفة حيث يصل صدر المتألهين الى أن معيار الحقيقة ليس أمراً خارجاً عن المعرفة ولكن المعرفة التي تقوم بهذا الدور إنما هي المعرفة البديهية. وإذا أردنا أن نشير إلى الحصيلة العامة المستنتجة من تلك الدراسة بالنسبة إلى نظرية المعرفة لدى صدر المتألِّهين فنستطيع القول انه لم يكن أحادي الارتكاز بمعنى أنه لم يعتمد على وسيلة معرفية ويدع الأخرى بل كان يعتمد على كل تلك الوسائل المعرفيَّة التي كان يرى أنها تُسهم في صناعة المعرفة مع إعطائه لكلٍ دوره، يقول الباحث: ".. لم تخرج نظريته في المعرفة عن الطابع العام الحاكم على جميع منظومته الفلسفية فكانت عصارة لجميع الجهود الفلسفية والفكرية الممتدة على مدى قرون من الزمن، ولم تكن وليدة لمذهب فلسفي خاص أو تيار معرفي معين، ولذا كان لكل من البيان والبرهان والعرفان دور في إنتاجها فكانت على حد وسط بين الإفراط والتفريط فلم ترفع الحس وتنزل ما سواه ولا العقل وتغفل عما عداه، ولم تكتف بالقلب أو الوحي بل كان لكلٍ دوره في عملية المعرفة، وعليه يمكن القول أن صدر المتألهين يرى أن كلاً من البرهان والكشف والوحي له دور في الإنتاج المعرفي، وهو يرفع الكشف عن العقل إذ بعض المعارف العالية والمباحث الإلهية لا يمكن للعقل الوصول إليها ولا يتسنى ذلك إلاَّ بالكشف. لكنه لا يستغني عن العقل لأن ما يستبين للمكاشف لا يمكن أن يثبته لغيره إلاَّ بواسطة البرهان وهذا لا يعني حصر دور العقل في مجال الإيصال المعرفي فقط بل له دور في الإنتاج المعرفي أيضاً لكن الكشف ينحصر دوره في مجال الإنتاج المعرفي فقط.
كما أن كل منتوج معرفي لا بد أن يكون منسجماً مع الوحي أو معطيات الشريعة وليست فلسفة حقيقية تلك الفلسفة التي تخالف الدين لأنه إذا قام البرهان على إثبات النبوة فلا بد من قبول جميع المواد المعرفية التي تأتي من خلال النبوة، وعليه لا بد من القبول أن العالم بالحكمة المتعالية عالم بالبرهان ومشاهد بالعيان ومنسجم كلامه مع الشرع.."(1).
وفي معرض تقييم هذه الدارسة نستطيع القول بشكل مجمل أنها استطاعت أن تنجز الهدف الذي سعت من أجله، ألا وهو تقديم رؤية متكاملة وممنهجة لنظرية صدر المتألهين المعرفية، وهي إن لم تتناول تلك المباني المعرفية بالنقد والتمحيص، لكنها استطاعت أن تُسهم مساهمة جادَّة في هذا المجال، إذ أن أي مهتم في المباني المعرفية للفلسفة الإسلامية ولمدرسة الحكمة المتعالية بالتحديد يستطيع أن يعتمد على هذه الدراسة لفهم قضية المعرفة، ومع ذلك فإنها خرجت في بعض الأحيان عن نسقها المعتاد لتقدم تحليلاً نقدياً لبعض الآراء الفلسفية والمعرفية أو لتطرح أسئلة مهمة في بعض المفاصل المعرفية والفلسفية، لتكون خطوة مهمة على طريق الفهم العميق لمنظومة الفلسفة الإسلامية.
(1) نظرية المعرفة، ص 6 7.