السيّد علي عبّاس الموسوي
لو تأمّلنا في حياة الناس الاجتماعية، وطريقة تصرُّفهم بعضهم مع بعض، لوجدنا كيف أن بعضهم، ولأسباب مختلفة، أُعطي من هذه الدنيا ما لم يُعطَ غيره من مال وشرف وجاه، فغيره يعيش بفضلٍ منه، ونتيجة أنه صاحب الفضل والنعمة فإن غيره يتقرّب إليه ويسعى لنيل رضاه، ويكون المهيمن على تفكيره كيف يسعى لينال الحظوة لديه، وكل ذلك لأنه يجده باباً للنعمة عليه، وهكذا يصبح ذكره بالخير على لسانه، فهو دوماً لفضله من الشاكرين ولحسن الثناء عليه وعلى خصاله من الذاكرين، لا يخلو مجلس أنس ومسامرة أو مجلس اختلاف وخصومة من مديح يفيض به له أو من دفاع عن تهمة قد توجَّه إليه.
ولا شكّ في أن هذا الأمر ممدوح ما دام في إطار الحقّ وخاضعاً لموازين الشرع، ولكن أعجب ما تراه أن الإنسان يقع في الغفلة تماماً عن صاحب النعمة العظمى عليه وصاحب الفضل على الناس كافة، أي عن ربّ العزّة والجلال، فلا تجده قد جعل من همّه رضا ربّه، ولا جعل المنزلة والمكانة والدرجة الرفيعة غايةً ينشدها ويسعى للوصول إليها.
تجد الناس تغفل تماماً عن ذكر الله، وتبتعد بها الغفلة أحياناً حتى عن الصلاة الواجبة، ولو التزم بها لم يؤدّها بحضور قلب، بل كانت ذكراً لسانيّاً خاوياً من حقيقة المعنى ومن حضور المعبود. والله عزَّ وجلَّ برحمته الواسعة جعل للإنسان محطات ينبّهه فيها من هذه الغفلة ويرشده إلى ضرورة حضوره في قلبه، ويتمثَّل ذلك بنحوين:
1 - الابتلاءات والمصائب: فالإنسان معرّض للابتلاء في هذه الدنيا بشتى أنواع المنغّصات التي تخرج بحياته عن طبيعتها، وعن الهناء والرخاء، أي يفتقد للنعم التي كان يرفل فيها ولا يذكر من أنعم عليه بها وعند الفقد يتذكر المنعم، فيتوجّه إليه ويلجأ مستغيثاً برحمته، وقد كان قبل ذلك نسياً منسيّاً، لأنه يدرك مرارة الفقد فيسعى لتدارك ما فات، وبهذا يلهج القلب واللّسان بذكر الله على الدوام.
2 - النعم والكرامات: من الناس من يكون الله عزَّ وجلَّ دائم الحضور في قلبه، ولسانه لا يفارق الذكر اللفظي، فالحضور التامّ متحقّق، وهو بهذا يصل إلى مقامات القرب، ويصبح من خواص ذي النعمة عليه، وبهذا يستحق النعم والكرامات التي يُعطاها. وهذه النعم والكرامات عندما تصل إليه تزيد حضور الله في قلبه ويشتدّ بذكر الله لسانه، وليس ذلك إلا لأنه عرف أن المنعم قد ذكره، وخصَّه بالتفاتة إليه وجعله من ذوي القرب عنده. وأكثر ما يتجلّى ذلك عندما تكون النعمة اختصاصاً ويكون الحصول عليها إعظاماً. وهذا ما أخبر الله عزَّ وجلَّ به عبده زكريا، وهو الذاكر لربّه دوماً، عندما دعا ربّه بالذريَّة الوارثة له مقام العلم والمعرفة، فقرن طلبه بأن يكون ولداً رضيّاً، فاستجاب الله له، وأمره بالفعل أن يخرج على قومه وهو في حال الذكر لله ليأمرهم بالرقيّ في الذكر والترقّي به وهذا ما أخبر الله به عزَّ وجلَّ في كتابه حيث قال: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ (مريم: 11).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.